على مدى عقدين من الزمن، دعا المتشددون في واشنطن إلى ضرب البرنامج النووي الإيراني. لكن دعواتهم كانت تُرفض دائماً، لأن البدائل كانت مُقنعة أكثر، ومتوفرة. فقدرات طهران على تخصيب اليورانيوم كانت لاتزال في بداياتها. والمجتمع الدولي كان مقتنعاً بأن الإيرانيين قادرون على إثبات حُسن النوايا وأن العقوبات الاقتصادية ستحقق صفقة. اليوم، هناك أسباب عديدة تحتم إعطاء الدبلوماسية فرصة أخيرة، وتحتم أيضاً الإستعداد للذهاب في الخيار العسكري، بحسب "فورين أفيرز" (*).
إذا قرّرت أميركا الذهاب إلى الخيار العسكري مع إيران، فهي بذلك تخاطر في إثارة المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وتضع على نفسها تكاليف مادية جسيمة ستتكبدها في أي مواجهة مباشرة، في وقت تحتاج فيه لأن تركز على مناطق أخرى. إضافة إلى أن مصداقيتها ستصبح على المحك إذا لم تنجح في تعطيل برنامج إيران النووي. فاحتمالات الفشل عالية جداً، لأن حتى الضربات الأكثر دقة قد تؤدي فقط إلى تأخير البرنامج في أحسن التوقعات. إن الحجج التي كانت تحول دون قرار العمل العسكري لم تعد مُقنعة كما كانت قبل عقدين. فالبرنامج النووي الإيراني قطع أشواطاً متقدمة جداً، ولدى طهران كل ما تحتاجه تقريباً لتنتج قنبلتها عندما تقرر ذلك، خصوصاً وأنها أصبحت؛ أكثر من أي وقت مضى؛ بحاجة لوسائل ردع جديدة وجدّية، بعد أن تعرضت شبكة حلفائها لانتكاسات قوية، وضربت إسرائيل أهدافاً داخل حدودها عدة مرات في العام الماضي. إن الحوافز التي تدفع طهران اليوم للتحول إلى الطاقة النووية أعظم من أي وقت مضى، ومن المرجح أن تكون تكاليفها المتوقعة قد تضاءلت. أضف إلى ذلك، أن المجتمع الدولي أصبح منقسماً بخصوص فعّالية العقوبات التي تُنتهك باستمرار من جانب دول عديدة، وصعوبة التعاول مع بعض الدول- الصين وروسيا على وجه الخصوص. الدبلوماسية تبقى أفضل الحلول لذلك تبقى الدبلوماسية هي الحل الأفضل والأكثر ديمومة. ومخاطر أي عمل عسكري يفرض على واشنطن أن تقوم بمحاولة أخيرة بحسن نية للتفاوض على وقف البرنامج النووي الإيراني، وأن تفعل ذلك في وقت مبكر من وصول إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولكن، ما لم تكن مستعدة للعيش في العالم الذي ستخلقه الأسلحة النووية الإيرانية المرتقبة، فقد لا يكون أمامها خيار سوى تحريك جيشها لمهاجمة إيران – وفي أقرب فرصة ممكنة. فالحكمة تتطلب من واشنطن البدء بالتخطيط لعمل عسكري الآن، والتأكد من إيران تفهم أن هذا تهديد حقيقي (…). هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى إعطاء الدبلوماسية فرصة “أخيرة”، منها: – أولاً، وقبل كل شيء، لا أحد يستطيع أن يضمن نجاح الخيار العسكري في وقف البرنامج النووي الإيراني. ربما تمتلك أميركا وشركاؤها الوسائل اللازمة لتدمير كل المنشآت النووية الرئيسية في إيران. ولكن هذا لا يضمن القضاء على كل المواد النووية التي تمتلكها البلاد، أو حتى كل معداتها النووية، التي قد يكون بعضها مخبئاً في مخازن مدفونة في أعماق الأرض. كما بإمكان طهران- إما كرد سريع لأي ضربة، أو تحسباً- نقل بعض مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب (أو كله) إلى مواقع سرّية، وبالتالي تحافظ على ما يكفي منه ليمكنها من إنتاج سلاح نووي عندما تريد. – إذا تعرضت إيران لهجوم من قبل قوة نووية معلنة – وهو التصنيف الذي ينطبق على الولايات المتحدة – فهذا سيحفزها على تطوير رادعها الخاص خصوصاً وأنها تدرك أنه بات لديها لديها شرعية دولية أكبر للقيام بذلك. ومع قدرتها على الإحتفاظ باليورانيوم المُخصّب في متناول اليد، فإنها تمتلك بالفعل المكوّن الرئيسي اللازم لإنتاج سلاح نووي عند الضرورة (…).
– أصبح لدى إيران خبرة نووية لا يُستهان بها تؤهلها لإنتاج سلاح نووي، وحتى إعادة تأهيل برنامجها بسرعة في حال تم تدمير المعدات والموادها التي لديها. إن التعويل على تدمير منشآة “نطنز” في أصفهان ومواقع نووية أخرى لن يكون الحل، تماماً كما لم يكن اغتيال عالم الفيزياء الإيراني محسن فخري زاده (2020)، أو قصف موقع إنتاج أجهزة الطرد المركزي (2021) هما الحل لا بل خير دليل على ما تقدم (…). – إذا قررت أميركا سحق البرنامج النووي نهائياً، فهذا يعني أنها ستضطر لشنّ هجمات على إيران بشكل دائم، وإلى الأبد. أو سيكون عليها التحضير لهجوم كاسح بكل معنى الكلمة، يضمن لها القضاء على أكبر عدد ممكن من قوات النظام وقدراته العسكرية وغير العسكرية في وقت قياسي. كلا المهمتين (الضربات المحدودة أو الكاسحة) صعبة جداً وتتطلب وقتاً طويلاً. ومن التهور افتراض أن واشنطن لديها الالتزام اللازم لإتمام أي منهما. فاحتمال أن تتخلى عن المهمة وارد جداً (كما فعلت في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى) وهذا يعني أن مصداقيتها ستصبح على المحك، بخاصة إذا تمكنت طهران في النهاية من إنتاج سلاحها. – مع الذهاب في الخيار العسكري تصبح العودة إلى الدبلوماسية صعبة جداً، لا بل ومستحيلة أيضاً، ما لم يتغير النظام الإيراني نفسه. وحتى هذا الافتراض في حد ذاته لا يضمن أن تكون النتائج المرتقبة أفضل (…). – إن شنّ هجمات على إيران سيُرهق موارد أميركا. وهناك بالفعل تقارير مفزعة بشأن نقص الذخيرة الأميركية وأنظمة الدفاع الصاروخي الاعتراضية. والتوقيت سيئ بالنسبة لواشنطن. والوضع الدولي معقد (الحرب الروسية الأوكرانية، تهديدات الصين بغزو تايوان، الشرق الأوسط بأكمله غير مستقر..). أي مواجهة مباشرة مع إيران ستُثقل كاهل أميركا لا سيما وأن شركاءها من الأوروبين والعرب يعارضون الخيار العسكري، أو في أفضل الأحوال يُشكّكون فيه (…). الصفقات الممكنة يبدو أن على أميركا اللجوء إلى الدبلوماسية مرة أخرى. وهناك أسباب تدعو إلى التفاؤل بأن البلدين، وبرغم الأوضاع المتقلبة، قد يتمكنان من التوصل إلى صفقة. فالدبلوماسية، بعد كل شيء، تتمتع بسجل حافل بالنجاحات عندما يتعلق الأمر بإبطاء طموحات إيران النووية – قبل أن ينسحب ترامب خلال ولايته الأولى من الاتفاق النووي المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” (…).
لكن ترامب (في ولايته الثانية) في وضع جيد لهندسة بديل. فلطالما كان معظم الديموقراطيين داعمين للدبلوماسية. وإذا انضم ترامب، فقد يفعل الجمهوريون الشيء نفسه. وإذا وافق بنفسه على صفقة جديدة، فهذا سيشجع إيران على القبول والامتثال. إن التوصل إلى صفقة ممكن ومفضل، لكن التنفيذ سيكون صعباً. فقد أبدى ترامب اهتماماً باتفاق “بسيط” لحرمان إيران من امتلاك سلاح نووي. ولكن شروط أي صفقة لا بد أن تكون معقدة حتى يكون لها تأثير كبير. وسوف تحتاج طهران وواشنطن إلى الإتفاق بشأن أي قيود تُفرض على البرنامج النووي، وما هو السلوك المسموح به لإيران إقليمياً، وكيف سيتم تخفيف أو رفع العقوبات عنها، وما هي الضمانات الأمنية التي قد تحصل عليها.
إن فهم كل هذه القضايا يتطلب مفاوضات مكثفة ــ وبخاصة لضمان استدامة الصفقة، وقابليتها للتحقق والتنفيذ ــ وسوف يتطلب مشاركة المزيد من الأطراف إذا كان من المقرر أن تكون القضايا الإقليمية محور الاهتمام. والمحادثات المتعددة الأطراف صعبة في أفضل الأوقات، فكيف وموسكو منشغلة في أوكرانيا، والتوترات مع بكين في أعلى مستوياتها.. وهذان ليسا سوى اثنين من العوامل المزعجة التي من شأنها أن تجعل التوصل لأي صفقة مهمة في غاية الصعوبة. الوقت من ذهب ومع ذلك، ثمة أمل في أن تتمكن واشنطن وطهران من التوصل إلى نوع من الاتفاق. فبرغم النكسات الاستراتيجية التي تعرضت لها إيران مؤخراً (…)، فإن التقدم الذي أحرزه برنامجها النووي يجعل من عامل الوقت نادراً. فإذا أصرت أميركا على نهج “الضغوط القصوى” بهدف تليّين إيران وإجبارها على اتفاوض، فقد تلجأ الأخيرة إلى إخفاء موادها النووية، أو إنتاج قنبلتها في السرّ، أو الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، أو كل هذه الأمور مرة واحدة. والفشل في التوصل إلى صفقة سيضع أميركا أمام خيار وحيد: الاستعداد لتحريك جيشها، والهجوم. صحيح أن الأسلحة النووية الإيرانية لن تشكل تهديداً وجودياً على المدى القريب لأميركا، لأن ترسانة الأخيرة تفوق بكثير أي مخزون (…). ولكن إذا أنتجت إيران سلاحها فسوف تشجع آخرين في الشرق الأوسط على القيام بذلك أيضاً، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى سباقات تسلح مستقبلية تهدد باندلاع حرب نووية، ويصبح العالم أجمع في خطر مُحدّق (…). إن ضرب البرنامج النووي له فوائد استراتيجية، منها على سبيل المثال استنزاف المزيد من موارد إيران المحدودة أصلاً. وهذا سيضعف إمكانياتها على تهديد المصالح الأميركية، أو محاولة إعادة بناء قدرات حزب الله، أو تخزين المزيد من القوة الصاروخية، أو إدارة مشاكلها الاقتصادية الإجمالية.. وكل هذا في حين لا تزال تحت العقوبات (…).
ببساطة، إضعاف إيران سيضطرها لاتخاذ خيارات استراتيجية حقيقية من شأنها أن تعود بفوائد على الشرق الأوسط (…). وقد يجد الإيرانيون العاديون فرصة لتغيير النظام. صحيح أن الهجمات الإسرائيلية (في تشرين الأول/أكتوبر الماضي) لم تحُدث تأثيراً ملحوظاً، وقد لا يكون الهجوم الأميركي كذلك. لكن الوقت أمام طهران سيكون أضيق، ومواردها أقل، وقدرتها على مضايقة جيرانها أضعف.. وهذا كله سيحفّزها على العمل من أجل ترتيبات أمنية إقليمية بنّاءة، كما سيُقلّل من الضغوط على دول أخرى للحصول على سلاح نووي. من المؤكد أن ضرب إيران ليس السبيل الوحيد (ولا الخيار الأفضل) لتعزيز صورة القوة الأميركية، ولكنه قد يلعب دوراً. توجيه ضربة قاضية للبرنامج النووي سيساعد في تعزيز مصداقية أميركا، والعكس صحيح. فعلى مدى العقدين الماضيين، نشأت شكوك في العالم بشأن التزام واشنطن بمعالجة التهديدات (تجربة إدارة باراك أوباما مع نظام بشار الأسد في سوريا، فشل إدارة ترامب الأولى في وقف الهجمات الإيرانية على القوات الأميركية والمنشآت النفطية الخاصة بالحلفاء.. وغيرها). وإذا حصل ونجحت إيران في امتلاك سلاح نووي، فسوف تُطرح المزيد من الأسئلة والشكوك حول مصداقية الالتزامات الأميركية (…). وهذا يفترض، بطبيعة الحال، أن الهجوم (إن حصل) يجب أن يكون كاسحاً وفعَّالاً. لا شك أن أميركا تستطيع تدمير المنشآت المعروفة، ولكن هذا وحده لن يمنع إيران من الحصول على قنبلة نووية. ومن المرجح أن يتطلب تحقيق مثل هذا الإنجاز أكثر من جولة من الضربات، ووجوداً عسكرياً أميركياً طويل الأمد في المنطقة، واستعداداً لتوسيع نطاق الهجمات إلى ما هو أبعد من المنشآت النووية واستهداف صُنّاع القرار في طهران، وشلّ أصول النظام والقضاء على قوات الأمن، حتى لو أدى ذلك إلى عدم الاستقرار الداخلي (…). أزمة هادئة
تعتبر سلطة واشنطن على حسابات طهران النووية محدودة في نهاية المطاف، ولا أحد يعرف كيف ينظر المسؤولون الإيرانيون حقاً إلى مأزقهم الحالي. كما أن العودة لتشديد العقوبات ستزيد من سعي إيران للتسلح. فاقتصادها المتعثر بسبب هذه العقوبات وطول مدة الحصار المفروض عليها، والضربات التي تلقتها مؤخراً من إسرائيل، كلها أسباب كافية لدفعها إلى البحث عن رادع قوّي، قد يكون على هيئة قنبلة نووية تنتجها في الوقت الذي تختاره. وبالتالي على صُنّاع السياسات في أميركا أن يبدأوا في إعادة حساباتهم الخاصة على قاعدة أن الأسلحة النووية الإيرانية احتمال وارد جداً، وأن الفرصة لتجنب هذه النتيجة أصبحت محدودة جداً. إن الظروف التي تطغى على الساحتين الإقليمية والدولية اليوم، والمستجدات التي شهدتها إيران والمنطقة والعالم، تختلف عن تلك التي كانت سائدة يوم تم التفاوض حول “خطة العمل الشاملة المشتركة” (…). فإيران بدأت بالفعل في إنتاج اليورانيوم المُخصّب بنسبة 60% منذ العام 2021. والهدوء النسبي للأزمة النووية الحالية بين واشنطن وطهران سببه طبيعة الحروب المستعرة في أماكن أخرى وليس ضبط النفس من الجانبين. لكن لا يوجد ما يضمن أن الأزمة ستظل هادئة لفترة أطول. لا يجب النظر في الخيار العسكري على أنه “ضروري لمنع إيران من تحقيق اختراق نووي”. في الواقع إنه فشل سياسي يُحتسب للحزبيين (الجمهوري والديموقراطي). إن عواقب المواجهة العسكرية خطيرة جداً، وبالتالي فإن المسار الأكثر أماناً هو التفاوض على صفقة. فإذا فشلت الدبلوماسية، يصبح على واشنطن أن تكون جاهزة للحرب.
ترجمة منى فرح-موقع 180