حضر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، مساء اليوم، القداس الاحتفالي الذي ترأسه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في كاتدرائية مار جرجس للموارنة في وسط بيروت، لمناسبة اليوبيل المئة وخمس وعشرين سنة على تدشينها في العام 1894.
عظة الراعي
وبعد تلاوة الانجيل المقدس، ألقى البطريرك الراعي عظة توجه في مستهلها إلى رئيس الجمهورية قائلا: "إنه لفرح كبير أن تكونوا على رأس المحتفلين بيوبيل المئة وخمس وعشرين سنة لتأسيس كاتدرائية مار جرجس، هنا في وسط العاصمة بيروت، بدعوة من سيادة أخينا المطران بولس مطر، راعي الأبرشية. إن قيامها في الوسط هو قيام المسيح نفسه في وسط المدينة بكلامه الحي، وبذبيحة جسده ودمه ووليمتها السرية، وبالجماعة المصلية مع الأسقف والكهنة.
إن وجودكم، فخامة الرئيس، مع هذه الكوكبة من الرؤساء الروحيين، والسيدتين الاوليتين السابقتين، وأصحاب الدولة والمعالي والسعادة، والمؤمنين والمؤمنات، يضفي على العيد رونقا جميلا، ومعاني رفيعة. فأنتم كرئيس للبلاد، إنما تقفون "في الوسط" بحيث تتجه اليكم أنظار اللبنانيين وآمالهم، ولاسيما في هذه الظروف السياسية والاقتصادية والمعيشية والأمنية الصعبة. وهي أوضاع نعيشها، إذ بعضها متأت من الداخل بنتيجة الحرب اللبنانية المشؤومة ونتائجها، والبعض الآخر من نتائج الحروب والأزمات الدائرة في بلدان من المنطقة، ومن سياسة دولية لا تتلاءم وموجبات السلام والاستقرار والنمو في المنطقة".
أضاف: "إننا نذكركم مع المسؤولين السياسيين ومعاونيكم في المؤسسات الدستورية، بالصلاة إلى الله كي يؤيد مساعيكم الخيرة ونواياكم الطيبة في قيادة سفينة الوطن إلى ميناء الاستقرار والنمو والازدهار".
وتابع: "يسوع القائم من الموت، تراءى لتلاميذه في مساء أحد قيامته، ووقف في وسطهم، فيما الأبواب موصدة. أعطاهم سلامه وكشف لهم هويته: صلبه لفداء العالم، وقيامته لبث الحياة الجديدة في الإنسان. هويته هذه أصبحت هوية الكنيسة والمسيحيين، وهي المشاركة في آلام الفداء، وإنعاش المجتمع البشري بالروح الجديدة.
"لقد وقف يسوع في الوسط وقال لهم: السلام لكم" (لو 24: 36). وقوفه" يعني حضوره الدائم في الكنيسة، جماعة المؤمنين، وهو رأسها. معها يصلي كرأس، ومن أجلها ككاهن، ويستجيب لها كإله"، على ما يقول القديس أغسطينوس. إنه "في وسط الكنيسة" يقودها بسلطانه الذي يمارسه بإسمه وبشخصه رعاة الكنيسة البشريون. وهي ممارسة تقتضي منهم أن يعكسوا وجهه وتعليمه ومحبته.
أما تحية "السلام لكم" (لو 24: 36) فتعني انتصار المسيح الفادي على الموت بقيامته. ليست مجرد تحية اجتماعية، بل تعني هبة السلام التي يعطيها هو، والتي ليست كالسلام الذي يعطيه العالم (يو 27:14)، لأنه سلام القلب والضمير. المسيح يعطيه سلاما، لأنه "هو سلامنا" (افسس14:2 )، بحسب تعليم القديس بولس الرسول. هذا السلام المعطى لجماعة التلاميذ إنما معطى للكنيسة ولكل واحد وواحدة منا لكي ننشره في العائلة والمجتمع والدولة. إنه سلام روحي مع الله بالأمانة لوصاياه وإنجيله وتعليم الكنيسة؛ وسلام اجتماعي بالعيش معا باحترام وتعاون وتضامن؛ وسلام سياسي بتحقيق الخير العام، وتأمين الحقوق الأساسية لجميع المواطنين: من تعليم وصحة وعمل وسكن وإنشاء عائلة مكتفية".
وأردف: "السلام هو رسالتنا وجوهر ثقافتنا، ورباط اتحادنا بالله. "طوبى لفاعلي السلام، يقول الرب فإنهم أبناء الله يدعون" (متى9:5.).
في هذا المفهوم اللاهوتي يندرج بناء كاتدرائية مار جرجس في وسط العاصمة، مثل سواها من الكنائس، كعلامة رجاء بالمسيح فادي الإنسان، وعلامة حضوره الفعلي والفاعل وسط الجماعة البشرية، وعلامة انتصار القيامة على الموت، والنور على الظلمة، والمحبة على الحقد، والعدالة على الظلم، والنعمة على الخطيئة.
هذه كانت نية المطران يوسف الدبس الذي بناها مستوحيا هندسة بازيليك مريم الكبرى في روما، ودشنها في عيد الشعانين سنة1894 . وها نحن اليوم في ذكراها السنوية المئة وخمس وعشرين. وكان سيادة راعي الأبرشية المطران بولس مطر قد أعاد ترميمها بعد استشهادها في الحرب اللبنانية المشؤومة، وأعاد إليها جمالها الاول بالتعاون مع عدد من المحسنين، ودشنها بقداس احتفالي أقامه المثلث الرحمة سلفنا البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس في 24 نيسان 2000. وهذه كانت نية المطران طوبيا عون الذي اشترى العقار المبنية عليه، وبنى أقبيتها، وباشر بوضع أساساتها، وتوفي قبل تحقيق البناء. بل تعود النية الأساسية إلى الخوري مخايل فاضل، الذي أصبح في ما بعد مطرانا لأبرشية بيروت، وبطريركا على الكنيسة المارونية. فهو أسس كنيسة مار جرجس القديمة سنة 1753 بإرادة البطريرك سمعان عواد. ولم تكن بعيدة عن مكان الكاتدرائية الجديدة، فاستمرت حتى بناء هذه الأخيرة. أما اليوم فغابت معالمها مع ما هدمته الشركة العقارية مؤخرا".
أضاف: "فخامة الرئيس، هذه الكاتدرائية الجميلة التي قامت من ركام الموت وعادت إلى زمنها الجميل، مثل مثيلاتها من الكاتدرائيات والكنائس في وسط العاصمة، إنما تبقى دعوة الرجاء لنهوض لبنان من "ركام" أزماته: الخلافات السياسية، الموازنة كعامل أساس للاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي، تماسك الأمن ودعم مؤسساته وأجهزته عناصر وعتادا، حماية القانون والعدل كأساس للاستقرار واجتذاب المستثمرين ورؤوس الاموال وتحريك الدورة الاقتصادية المتكاملة. أجل، العودة بلبنان إلى زمنه الجميل ممكن بفضل قدرة أبنائه وطاقاتهم، وبقيادتكم الحكيمة مع سائر المسؤولين في البلاد".
وختم قائلا للرئيس عون: "نسأل الله في هذه الذبيحة الالهية بشفاعة القديس جاورجيوس، صاحب المقام، وقاتل "تنين " أصنام زمانه، أن يعضدكم في قتل "تنين" أصنام الفساد والمال ونفوذ الأشخاص لغير صالح الدولة والشعب. فليكن كل ذلك لمجد الله الواحد والثالوث الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".
ساندري
وفي ختام الاحتفال، تلا المونسنيور سانتوس رسالة رئيس مجمع الكنائس الشرقية في الكرسي الرسولي الكاردينال ليوناردو ساندري، للمناسبة، باللغة الفرنسية، وبعدها تمت تلاوة الرسالة باللغة العربية، وجاء فيها: "تحتفل أبرشية بيروت باليوبيل الخامس والعشرين بعد المئة لكاتدرائيتها المشيدة في العام 1894. لقد أراد المطران يوسف الدبس أن تكون هذه الكاتدرائية في هندستها الداخلية مشابهة لبازيليك القديسة ماريا الكبرى البابوية في روما. ولو كانت هذه الكاتدرائية أكثر تواضعا إلا أنها تعبر عن تعلق الكنيسة المارونية وبخاصة هذه الأبرشية بكرسي بطرس.
يجدر الفرح بالاحتفال بهذا اليوبيل، ليس للتنويه بقدم هذه الكاتدرائية وعراقتها وحسب، بل من أجل التذكير بالمحن التي عانتها عبر تاريخها. فلقد بقيت مغلقة على مدى خمسة وعشرين عاما، مجرحة بفعل حرب دمرت آثارا وبيوتا وسببت دموعا وجروحا وأوقعت قتلى.
في مناسبة اليوبيل الكبير للعام 2000، كان البطريرك الكاردينال الراحل مار نصرالله بطرس صفير، وكان آنذاك بطريركا لإنطاكية للموارنة، والذي نرفع من أجله صلاة حارة لوفاته، قد احتفل بالذبيحة الإلهية في هذه الكاتدرائية المرممة بفضل محسنين موارنة أسخياء.
فاحتفلوا بهذا اليوبيل على أنه زمن نعمة. المسيح يريد أن يقترب من مؤمنيه ليمنحهم أنعامه وليقويهم بالإيمان والرجاء. ولتنزل نعمة الله وافرة على سيادتكم وأنتم تتولون هذه الأبرشية منذ العام 1996، وعلى مؤمنيها وسكانها ليقبلوا نعمة السلام والتوافق والفرح. وليكن هذا اليوبيل أيضا ينبوع توبة ومغفرة للجميع.
وإني أسألكم، يا صاحب السيادة، أن تتقبلوا تأكيد إخلاصي ومشاعري القلبية".
وفي ختام الاحتفال، هنأ رئيس الجمهورية البطريرك الراعي والمطران مطر بيوبيل الكاتدرائية، متمنيا ان تبقى لسنين عديدة شاهدة على رسالة لبنان وقيامته.