كتبت صحيفة "الأخبار": سجّل سعر الصرف (غير الرسمي) ارتفاعاً جديداً أمس وبلغ 1550 ليرة مقابل الدولار الواحد. بعض سندات اليوروبوندز انخفض سعرها إلى 70 دولاراً وارتفع العائد عليها إلى 21.5%. مؤشران ظهرا على وقع حديث متزايد عن احتمال قيام "ستاندر أند بورز" بخفض تصنيف لبنان، ووسط أقاويل عن أن رئيس الحكومة طلب مساعدة أميركية لانتزاع فترة سماح لستة أشهر... هذه البلبلة في السوق تعني أن الأزمة تشتدّ، لكن الكارثة لم تأت بعد!
"لا يزال الهلع تحت السيطرة". هذه العبارة تكرّرت خلال الأيام الماضية ربطاً بالتطورات المسجّلة على أكثر من محور. فعلى المحور النقدي، بلغت قيمة الدولار الواحد لدى الصرافين 1550 ليرة، وسط شحّ في الدولارات المتوافرة لديهم. وعلى محور سندات لبنان المتداولة في الأسواق الدولية، انخفض سعر تلك التي تستحق في عام 2021 إلى 70 دولاراً وارتفع العائد عليها إلى 21.5% وهو أعلى مستوى بلغته هذه السندات. وعلى محور تصنيف لبنان المرتقب ليل الخميس - الجمعة من «ستاندر أند بورز»، لا تزال الترجيحات تركّز على خفض من درجة (-B) إلى (+CCC) لتصبح ستاندر أند بورز ثاني وكالة تخفض التصنيف إلى هذا المستوى المتدني الذي يعبّر عن "احتمال التعثّر"... هذا المشهد كما يصفه المطلعون يعني أن خفض التصنيف ليس كارثة بحدّ ذاته، بل هو مؤشّر على اشتداد الأزمة.
أول من أمس، رجّح المحلل في غولدمان ساكس، فاروق سوسا، أن تعمد "ستاندر أند بورز" إلى خفض تصنيف لبنان، معتبراً أن سندات اليوروبوندز ستغرق أكثر في درجة "الخردة"، وصولاً إلى "احتمال عدم السداد (التعثّر)"، فيما يعاني البلد من صعوبة من استقدام كفايته من الدولارات لتغطية حاجاته (لبنان يحتاج سنوياً إلى جذب نحو 15 مليار دولار بالعملة الخضراء لتغطية الاستهلاك العام والخاص).
تصريح سوسا الصادر ظهر الاثنين لوكالة «بلومبيرغ» لم يترك أثراً سلبياً على حملة السندات في لبنان والخارج، بل بدا كأنهم يتوقعون خطوة خفض التصنيف ويتعاملون معها على أنها أمر واقع منذ أسابيع «إلا أن شيئاً ما حصل عند الخامسة من بعد ظهر الاثنين في أسواق أميركا، إذ انطلقت عمليات بيع سندات اليوروبوندز اللبنانية بوتيرة متزايدة أدّت إلى تدني قيمتها وارتفاع العائد عليها. أبرز السندات المتأثّرة سلباً يوم الاثنين الماضي هي التي تستحق في 2021: ارتفع العائد عليها إلى 21.5%، وانخفضت أسعارها إلى 70 دولاراً" يقول أحد مديري المؤسسات المالية.
لم تتضح أسباب الهجمة المفاجئة على البيع، رغم أن مسألة خفض التصنيف معروفة وترتقبها الأسواق منذ فترة، إلا أنها جاءت على وقع أقاويل وشائعات عن أن رئيس الحكومة سعد الحريري طلب من المسؤولين في الولايات المتحدة الأميركية الضغط على وكالة "ستاندر أند بورز" من أجل منح لبنان فترة سماح لستة أشهر، إضافة إلى شائعات يزعم مطلقوها أن الحريري طلب من مسؤولين اميركيين الضغط على السعودية لوضع وديعة في مصرف لبنان. قبلها بأيام، سرت أقاويل تشير إلى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة طلب من وكالة ستاندر أند بورز منح لبنان فترة سماح لستة أشهر، إلا أن مسؤولي الوكالة رفضوا وأبلغوه أن خطوة خفض التصنيف واردة جداً في ضوء المؤشرات.
يصعب الركون إلى فكرة تجاوب وكالات التصنيف مع الضغوط السياسية، وإن كان لا يمكن استبعادها كلياً، إلا أن حصول مثل هذا التجاوب "يضرب صدقيتها تماماً كما يضربه تسريب خفض التصنيف قبل موعده» وفق المتابعين. تلميحات هؤلاء بأن ثمة من سرّب الخبر في أميركا ردّاً على الضغوط التي مورست، ما دفع بعض حملة الأسهم في الخارج إلى بيعها.
تصنيف مدفوع
وظيفة شركات التصنيف هي تقييم مخاطر البلدان والشركات مقابل أتعاب مالية تتقاضاها من طرفين: مصدرو السندات، وحاملو السندات. المصدرون هم الجهات التي تستدين الأموال من الأسواق بشروط معينة منصوص عليها في السندات، وحاملو السندات هم الجهات التي تقرض المصدرين الأموال بالشروط المتفق عليها. التصنيف في هذا المجال يخدم المصالح المتوافق عليها بين الطرفين، ولا يمكنه أن يخدم مصلحة طرف على حساب الثاني من خلال التلاعب بالتصنيف.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن "موديز"، و"فيتش" و"ستاندر أند بورز" تتقاضى أتعاباً مالية من لبنان لأنه "لا يمكن إصدار سندات وبيعها في الأسواق الدولية من دون أن يكون لديه تصنيف من هذه الوكالات". كذلك تتقاضى وكالات التصنيف مبالغ من المصارف المحلية والأجنبية والصناديق والمستثمرين الأفراد، من أجل الحصول على تقارير عن أوضاع البلدان التي يشترون سنداتها تمهيداً للاحتفاظ بهذه السندات أو بيعها بأسعار قد تحقّق لهم أرباحاً أو قد تغنيهم عن خسائر إضافية فيما لو تكبدوها.
آلية التصنيف، بحسب المدير المالي والاستراتيجي السابق في بنك عوده، فريدي باز، تستهدف تقييم قدرة كل بلد على الإيفاء بالتزاماته، بالاستناد إلى مجموعة معايير:
ــ التقييم المؤسسي: يتضمن الاقتصاد السياسي بما يعنيه ذلك من حوكمة وفعالية الإدارة وصوابية القرارات ومؤشرات الهدر والفساد وغيرها.
ــ التقييم الاقتصادي: ومن شأنه أن يظهر مقدرة البلد على تأمين معدلات نمو مستدامة وضبط التضخم وتطور أساسيات الاقتصاد بشكل عام.
ــ التقييم المالي: وينظر إلى مؤشرات مالية؛ منها الدين العام وقدرة البلد على خدمته، فضلاً عن نفقات الموازنة وإيراداتها...
ــ التقييم النقدي: يركّز على نموّ الودائع والتسليفات وسيولة القطاع وسواها من المؤشرات النقدية.
ــ التقييم الخارجي لوضعية لبنان: يتضمن النظر إلى التزامات لبنان قياساً إلى موجوداته الخارجية وقدرته على تدوير الديون.
ويلفت باز إلى أن اللجنة المعنية بدراسة التصنيف السيادي تضع علامات على كل مجموعة من المعايير وفق لائحة نموذجية معدّة مسبقاً. هذه العلامات تتراوح بين ضعيف جداً (6) وقوي جداً (1). وعلى أساس هذه العلامات يتم منح التصنيف الملائم لكل بلد. "في آذار 2019 عدلت وكالة موديز رؤيتها المستقبلية للبنان من مستقر إلى سلبي. في ذلك الوقت نال لبنان أربع علامات (6) على أربع مجموعات من المعايير ونال على المجموعة الخامسة علامة (5)".
يستنتج من هذا الأمر، أن تصنيف لبنان بدرجة (+CCC) هو سيئ بمقدار تصنيفه (-B)، فالأخيرة تعني أن قدرة لبنان على الإيفاء بالتزاماته ضعيفة جداً، فيما الأولى تعني أن ضعف هذه القدرة بلغ مرحلة احتمال التعثّر. وخفض التصنيف أكثر، يعني أن احتمال التعثّر يزداد وصولاً إلى درجة التعثّر.
وبحسب المطلعين، فإن وكالات التصنيف تقوم بعملية التصنيف السيادي مرتين سنوياً، لكن يمكنها في أي وقت من الأوقات أن تعدل التصنيف إذا ما رأت أن هناك حاجة لذلك ترجمةً لتطورات معينة أو أحداث كبرى قد تحدث في البلد الخاضع للتصنيف.
خفض محسوب
لا يتوقع أن يكون أثر خفض التصنيف كبيراً جداً. فمن جهة، يعكس التصنيف الأزمة التي يشهدها لبنان منذ فترة غير قصيرة، إلا أنه مؤشّر على ازدياد حدّتها. بمعنى آخر، إن تزايد صعوبة الأزمة لا يعني حصول الانهيار، وليس كارثة "وليس آخر الدنيا بل يبقى المجال مفتوحاً للمعالجة" وفق باز. فالأثر الأساسي لخفض التصنيف يصيب المصارف وحملة السندات مباشرة لأنه يرتّب عليهم معالجات محاسبية متصلة بضرورة زيادة رأس المال، لكنه يرتّب أيضاً على الدولة ارتفاعاً في كلفة الاستدانة، فهو يعني أنه لم يعد بإمكان الدولة الاستدانة إلا بفوائد أعلى «لكن اللافت أن الفائدة الفعلية التي لطالما دفعها لبنان على سندات اليوروبوندز هي أعلى بدرجتين أو ثلاث درجات من الفائدة المدفوعة على أساس تصنيف المؤسسات. بمعنى آخر، خفض التصنيف محسوب منذ فترة طويلة".
بصرف النظر عما يعنيه كلام باز من أن لبنان كان يستدين بكلفة أعلى من كلفة مستويات المخاطر في لبنان، وهذا ما يوجب محاسبة المسؤولين عن الأموال العامة المدفوعة من دون وجه حق، فالخلاصة أن خفض التصنيف يعبّر عن «حالة اضطراب" كما سمّاها رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، وهي حالة "يكون فيها تعداد المشاكل سهلاً"، رافضاً توصيف "حالة إفلاس أو انهيار". أي أن الكارثة لم تأت بعد.