حلّ لبنان في المرتبة الأخيرة، عربياً، في اختبارات (PISA) العالمية. التلامذة اللبنانيون خاضوا تقييم مهارات القراءة والرياضيات والعلوم، وعزفوا عن المشاركة في المهارات الشمولية ومهارات الحياة. لكن حتى في المواد التعليمية، تظهر نتائج الاختبارات أنّ نسبة صغيرة من التلامذة يبلغون مستويات متقدّمة في المهارات في أحد المجالات على الأقل
لبنان في المرتبة الأخيرة في قائمة الدول العربية المشاركة في اختبارات البرنامج العالمي لتقييم أداء المتعلّمين (PISA)، وفي المرتبة الـ74 من أصل 77 دولة شاركت في الاختبارات.
بهذه النتيجة التي تلامس الإفلاس، خرج نظام التعليم في لبنان من اختبارات 2018 التي أُعلنت نتائجها قبل أيام. ويجري هذا التقييم مرة كلّ ثلاث سنوات، لتقدير مدى اكتساب بعض المهارات المفتاحية والقدرات الأساسية للمشاركة الفعالة للتلامذة في المجتمع. ويشمل التقييم مهارات في القراءة والرياضيات والعلوم، فضلاً عن مهارات الحياة وبعض المهارات الشمولية في مجال محدّد ومتجدّد كلّ دورة.
ويشبه إفلاس التعليم في لبنان أحوال الإفلاس السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إذ تُظهر الأرقام، بشكل جليّ، أنّ التعليم ليس بمنأى عن التدهور السياسي والأزمة الاقتصادية وتردّي الأوضاع الاجتماعية في البلد. فكيف نقرأ هذه الأرقام بالتفصيل؟
مشاركة عبر النسخة الورقية
شارك لبنان في الدورة الأخيرة من اختبارات PISA، بعيّنة من 5614 تلميذاً، من 320 مدرسة تضمّ 53726 تلميذاً، أي 87% من التلامذة بعمر 15 عاماً. وفي حين خاضت معظم البلدان الاختبار بالنسخة الرقمية، تقدّم التلامذة اللبنانيون اليه بنسخته الورقية. وخاضوا تقييم مهارات القراءة والرياضيات والعلوم، ولم يشتركوا في المهارات الشمولية ومهارات الحياة. فماذا يعرف التلامذة اللبنانيون بعمر 15 عاماً في القراءة والرياضيات والعلوم، وماذا يستطيعون أن ينجزوا؟
تشير نتائج تحصيل التلامذة اللبنانيين إلى أنّها أدنى بكثير من المعدّل العام للدول المشاركة في البرنامج، وذلك في مهارات القراءة والرياضيات والعلوم، فيما نسبة صغيرة منهم تبلغ مستويات متقدّمة في المهارات في أحد المجالات على الأقل.
في مهارات القراءة، يبلغ قرابة ثلث التلامذة اللبنانيين (32%)، مهارات المستوى الثاني المتعلّقة باستخراج الفكرة الرئيسية للنص واستخراج بعض المعلومات منه بناءً على تعليمات مباشرة. فيما تبلغ النسبة للمستوى نفسه 77% من التلامذة من سائر البلدان المشاركة. وبلغ واحد في المئة فقط من التلامذة اللبنانيين المستويين 5 أو 6 حيث المهارات تتناول الفهم الشامل والمفصّل لنصّ غير معهود بالشكل أو بالمضمون، فيما تبلغ النسبة 9% من التلامذة من سائر البلدان المشاركة في البرنامج.
في الرياضيات، يملك أقل من نصف التلامذة اللبنانيين (40%) مهارات المستوى الثاني المتعلّقة بتعريف الوضعيات البسيطة وتمثيلها بواسطة أدوات الرياضيات، فيما تبلغ النسبة، للمستوى نفسه، 76% من التلامذة من سائر البلدان المشاركة في البرنامج. اثنان في المئة فقط من التلامذة اللبنانيين يبلغون مستويات عليا في الأداء في الرياضيات مثل النمذجة في الوضعيات المعقّدة واستراتيجيات حلّ المشاكل، فيما تبلغ النسبة للمستويات نفسها 11% من التلامذة لسائر الدول المشاركة.
وفي العلوم، يتوقف نحو ثلث التلامذة اللبنانيين (38%) عند المستوى الثاني المتعلّق بتفسير الظواهر العلمية في بيئات معهودة أو استخلاص خلاصات بنتيجة استقصاءات بسيطة، مقابل 78% من التلامذة من بقية الدول. وأظهرت النتائج أن واحداً في المئة فقط من التلامذة اللبنانيين هم بمستوى متقدّم في العلوم بما يسمح لهم بالإبداع الفردي وتوظيف معارفهم في وضعيات غير معهودة، في مقابل 7% لدى التلامذة من كل البلدان المشاركة في البرنامج.
ولدى المقارنة بين نتائج لبنان عام 2018 ونتائجه في عام 2015، يظهر ثبات هذه النتائج على رداءتها بصورة إجمالية، مع تقدّم طفيف وغير دال إحصائياً في القراءة، وتراجع طفيف في الرياضيات، وتراجع أكبر في العلوم.
اختلال في عدالة التعليم
إلى ذلك، تشير نتائج اختبارات (PISA-2018)، في ما يخص الواقع الاقتصادي - الاجتماعي وعدالة التعليم في لبنان، إلى أن التفاوت في الخلفيات الاقتصادية - الاجتماعية للتلامذة يؤثر في مدى اكتسابهم مهارات القراءة. لكن مكونات الواقع الاقتصادي – الاجتماعي تشرح الـ11% من نسبة التباين في أداء التلامذة اللبنانيين في الرياضيات، و12% من نسبة التباين في نتائج العلوم. وتظهر أن 9% من غير المحظيين اقتصادياً واجتماعياً من التلامذة اللبنانيين، قادرون على بلوغ الـ25% الأعلى من النتائج في اكتساب مهارات القراءة لجميع التلامذة من كل البلدان المشاركة في البرنامج.
كذلك تظهر النتائج أن مجموعات التلامذة من ذوي الأداء المرتفع (أو المتدنّي) تنتمي إلى المدارس نفسها، بمعنى أن هناك مدارس تضمّ معظم التلامذة من ذوي الأداء المرتفع، ومدارس أخرى تضمّ التلامذة من ذوي الأداء المتدنّي. وهذا المشهد غير معمّم لدى باقي البلاد المشاركة في البرنامج.
وبخصوص توافر التجهيزات ومستوى إعداد المعلّمين، تشير النتائج، إلى أن 16% من التلامذة اللبنانيين يرتادون مدارس تعاني من نقص في المعدات والمستلزمات والتجهيزات. فيما يتوزّع المعلّمون من أصحاب الكفاءة للتعليم على المدارس المجهزة وغير المجهزة بشكل مماثل بنسبة وسطية تبلغ 84% من الجسم التعليمي مع شهادة تعليمية توازي الماستر (أي خمس سنوات في الإعداد الجامعي الأساسي بعد الثانوية العامة).
وفي ما يتصل بالجنس وعدالة التعليم، تشير النتائج إلى أن تعليم الذكور والإناث يبقى على قدم المساواة في لبنان. ولكن على مستوى الخيارات المهنية، تتقلّص توقعات الإناث إلى نصف توقعات الذكور من ضمن الفئة ذات الأداء المتقدّم في الرياضيات لاختيار مهنة الهندسة، بينما تعلو انتظارات الإناث من ضمن الفئة ذات الأداء المتقدّم في العلوم لمهن الصحة العامة.
وكان هناك 6% من التلامذة اللاجئين، ثلثهم في أوضاع اقتصادية – اجتماعية غير مشجعة. وينخفض أداء اللاجئين بالمقارنة مع أترابهم اللبنانيين في مهارات القراءة.
أما في المناخ الصفي، فهناك 59% من التلامذة اللبنانيين راضون عن الحياة المدرسية (67% معدّل الرضا لدى سائر المتعلّمين في مجموعة الدول المشاركة في البرنامج) ويعبّرون عن مشاعر إيجابية.
بحث عن أصحاب رؤية وتخطيط
كيف السبيل إلى النهوض مجدّدًا بالتعليم في لبنان واستعادة الجودة المفقودة؟
بالأرقام، نتائج التلامذة اللبنانيين هي الأسوأ في مجموعة الدول العربية المشاركة، ومن ضمن الأسوأ عالميًا. فكيف السبيل إذًا من أجل تحسين سياسة التعليم في لبنان ونتائج التلامذة اللبنانيين في ضوء قراءة هذه النتائج والمعطيات المتوافرة حولها فضلاً عن بعض المؤشرات الاقتصادية - الاجتماعية التي تشكّل رافداً اساسياً لواقع حال نظام التعليم في لبنان ومخرجاته؟
أولاً، من غير المفهوم أن يتقدّم التلامذة اللبنانيون إلى اختبارات القلم والورقة عوضاً عن الإختبارات على الحاسوب في هذا العصر الرقمي. أين تذهب صفقات الألواح الذكية والتفاعلية بعد كلّ الهبات الخارجية والمحلية التي سعت إلى تجهيز بعض المدارس الرسمية بالحواسيب وكل ما أنفق من موازنات المدارس الخاصة لدخول العصر الرقمي ودورات التدريب المستمر التي خضع لها المعلمون في دور المعلمين؟
ثانياً، لا يزال نظامنا التعليمي قائماً على مناهج المواد الدراسية التي تقدّم المعارف بطريقة منفصلة، فلا يربطها التلامذة بالمهارات الشمولية ولا بمهارات الحياة. ولا يزال المركز التربوي للبحوث والإنماء، وهو الجهة الرسمية الموكلة تطوير المناهج، مشلولاً يعمل بخطى السلحفاة، وإذا عمل فبلا رؤية، ويتخبّط بالمحاصصات والمصالح والنفوذ والتنفيعات، وبينما جرى تأسيسه بهدف أن يعمل باستقلالية، فإذا به في خضم المحاصصات السياسية ودوائر النفوذ والإنتفاعات، وغدا أشبه بوزارة ظل بموازاة وزارة التربية، وأشبه بهيكل منه إلى خلية عمل تربوية تضم اختصاصيين لا منتفعين ومستزلمين. وقد فُرّغ المركز التربوي من دوره وأصبح عبئاً إدارياً لا طائل منه وانتفى مبرّر وجوده بعد دخوله في بطالة إدارية مقنّعة عنوانها مضيّ ما يربو على ثلاثة عقود تجمّدت فيها المناهج من دون أي تعديل، ولم تتحسّن خريطة توزيع التجهيزات على المدارس، ولم يحصل التدريب المستمر من ضمن سياسة تربوية هادفة تحاكي إلزامات الإعداد والأداء العصريين.
ثالثاً، نتائج التلامذة اللبنانيين هي دون المعدل العام بكثير، والمتفوقون منهم أقلية ناشزة. في حين أن نظام الإمتحانات المتبع في لبنان يعطي نتائج مغايرة بالكامل، ونسب نجاح أسطورية، سواءً أكانت على مستوى الشهادة المتوسطة أو الثانوية العامة. الأمر الذي يضمر تواطؤاً بين دائرة الإمتحانات والمدارس بهدف تغطية الفشل بالأداء بعلامات وهمية في الامتحانات. ونتيجة لذلك، تحافظ دكاكين التعليم على تجارتها التربوية وتتقاضى الأقساط الخيالية مقابل خدمات تُصادق عليها امتحانات غير ذات صدقية وعلامات مضخمة.
ثالثاً، تظهر النتائج أن المدارس في لبنان تضمّ بداخلها تلامذة متفاوتي الأداء: مدارس لذوي الأداء المرتفع ومدارس أخرى لذوي الأداء المتدنّي. هذه الخريطة، هي المضاد المميت لقابلية التعلّم. وعلاوة على ذلك، فإن وجود مدارس «متخصّصة» لذوي الأداء المتدنّي يعني أن هذه المدارس مؤسسات تبغي الربح المادي لا أكثر. فأين الرقابة على أداء المدارس في الوقت الذي أصبحت فيه وزارة التربية وزارة خدمات حزبية ومناقلات غبّ توافر الواسطة؟ وأصبح وزير التربية في لبنان على امتداد الحكومات المتعاقبة لا يفقه بالتربية والتخطيط، ولا بالإعداد والتعليم، بل ممثل الحزب والطائفة.
كان من الممكن إيلاء التربية في لبنان السياسة التي تستحق، فتصبح بين أيدي متخصّصين ومستقلّين وذوي رؤية وإقدام وتخطيط، ويصبح نظامنا التعليمي أرشق وأجدى، والتلامذة اللبنانيون أكثر قدرة على استخدام معارفهم ومهاراتهم في القراءة والرياضيات والعلوم لمواجهة متطلبات الحياة الحقيقية وتحديات العصر والتهميش الاقتصادي – الاجتماعي.