خاص

الأكلات الشتوية في السهرات البيروتية... الجزء الخامس: "حراق أصبعو"

تم النشر في 28 كانون الثاني 2020 | 00:00

زياد سامي عيتاني

"الحرّاق أصبعو"، من الأكلات البيروتية الشعبيّة المعروفة لما تحمله من أصالة وتراث، ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮﺩ ﻃﻌﺎﻡ. فهي تتميّز بطقسها الفريد بسبب توزيعها على الجيران ما يعكس صورة العلاقات الإنسانيّة والتقارب بين أبناء الحيّ الواحد، يوم كانت أحياء بيروت عبارة عن منازل وبيوت قبل أن تغزوها المباني الإسمنتية الساحقة، التي أفقدت العاصمة الكثير من نسيجها الإجتماعي الذي كان يقوم على قيم الجيرة والتعاضد والنخوة والشهامة...

كما أن هذه الأكلة البسيطة التي باتت طبق تقليدي مرتبط بالعادات والتقاليد القديمة، كانت محببة عند الأغنياء والفقراء على حد سواء، وكانت تحضر بقوة في ليالي بيروت الشتوية، كما كانت تتسد مآدب شهر رمضان المبارك...

•دمشقية المنشأ والنكهة:

أكلة "الحرّاق أصبعو"، التي من المرجح أنها دمشقية الأصل، وهي عبارة عن عدس وعجين أو خبر مقطع والبصل المحمر والكزبرة والثوم ودبس الرمان والملح. وبعض النساء يضفن عليها السلق أو الكوسا المقطع. وهذه تعطي الوجبة نكهة لذيذة، وهي تؤكل ساخنة.

•سبب التسمية:

عادة ما تتعدد الروايات عندما يتعلق الأمر بسبب تسمية إحدى الأكلات الشعبية الشائعة. وهذا ما ينطبق على أكلة "حراق أصبعو" تعددت الروايات بشأن تسميتها، حيث سنستعرض الأبرز منها:



-الرواية الأولى:

منذ حوالى ٣٠٠ عاماً كانت إمرأة فقيرة زوجها متوفى ولديها صبي وبنت، تعمل في تنظيف بيوت الأغنياء، وكانت غالباً تتقاضى مبلغاً من المال كل يوم وتعتاش منه، ولخوفها على مالها الذي تجنيه كانت دائماً تحمله معها أينما ذهبت، وفي إحدى المرات طلب منها تنظيف منزل أحد تجار التوابل هناك، فقامت بالذهاب والقيام بعملها، وبعدما فرغت من ذلك، أعطتها زوجة التاجر حقها من المال كما أعطتها شوال عدس، ورطلاً من التمر الهندي، وعند عودتها إلى البيت (المرأة الفقيرة) تعثرت ووقعت على الأرض نتيجة ما تحمله من العدس والتمر الهندي، ومن دون أن تنتبه سقطت منها محفظتها القماشية التي تحوي على جميع نقودها، وبعد وصولها إلى المنزل إكتشفت أنها أضاعت النقود، فأصيبت بصدمة وحزن شديدين على المال الذي كان عليها أن تشتري فيه طعام اليوم لإبنها وإبنتها، وبعد ساعات بدأ الطفلان بالصراخ والبكاء نتيجة الجوع، ما أضطرها إلى سلق كمية من العدس الذي أعطي لها وخلطه مع معصور التمر الهندي أيضاً، وبعد الإنتهاء من تحضير الطعام الجديد، همّ الطفل الصغير إلى القدر ولمسه بإصبعه بغية تناول الطعام فحرق أصبعه وصرخ من شدة الألم، ولهذا الشيء سميت "الحراق إصبعو"، وبعد إنتشار ما حدث لهذه المرأة وأبنائها، ورويت هذه القصة لربات المنازل ما جعلهن يعددن هذه الأكلة بغية تذوقها، وبالفعل أصبحت "الحراق أصبعو" من الأكلات المرغوبة جداً، مع مراعاة أن لا يؤكل ساخنة بل دافئة بعض الشيء، تحسباً من حرق الأصابع.

-الرواية الثانية:

إعداد "الحراق أصبعو" يأخذ وقتا طويلا، حيث كانت النساء في السابق يتفرغن يوما كاملاً لإعدادها وطبخها، وكن يجتمعن لطبخها بشكل مشترك وفولكلوري، وبسبب الوقت الطويل لتحضيرها كانت النساء تتعرض لحرق أصابعهن، لذلك سميت "حراق إصبعو"، وهي على الرغم من الوقت الطويل في تحضيرها إلاّ أنها كانت تعتبر وجبة دمشقية بسيطة، والبعض طورها فأضاف لها المعكرونة وتسمى في هذه الحالة "ستي ازبقي"، وجاءت تسميتها من مقولة: "جاء جدي يا ستي ازبقي"، أي إهربي، لأنها لن تعجب الجد، حيث الرجال يرغبون في تناول الطعام المدسم وليس مثل هذه الأكلة البسيطة على الغداء.



-الرواية الثالثة:

يُحكى أن رجلاً شرِهاً مُحِبّاً للطعام، لم يكن يستطيع أن يضبط نفسه وينتظر حتى تقدِّم زوجته الطعام، فتراه دائماً في المطبخ يتذوق الطعام قبل وضعه على المائدة.

وفي مرة من المرات كانت الزوجة تعد طبقاً جديداً من إختراعها، فدخل الزوج على عادته ووضع أصبعه بالقدر ليتذوق فحُرِقت أصبعه.

وعندما دخل إبنهما ليسأل عن الأكلة، ظنت الأم أن إبنها يسأل عما حلَّ بوالده فقالت له: حرق أصبعه ..فظن الولد أن "حرق أصبعه" هي إسم الأكلة.

وتم تداول الإسم من يومها وتحريفه فيما بعد إلى "حراق أصبعه".



أياً تكن التسمية، فإن أكلة "حراق أصبعو" ما زالت العديد من الأسر البيروتية تعدها في فصل الشتاء، حيث تحن إليها وتعتبرها (شهوة) ومناسبة لإسترجاع أكلات أيام بركة زمان، حينما كان أفرادها يجتمعون حول الطبلية في "قوضة القعدة" للتمتع بطعمها اللذيذ مع بعض الخضروات من الحشائش الفاتحة للشهية...

ـ يتبع: رشتة العدس.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.