عشية انطلاق التحركات الشعبية الاحتجاجية في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ والتظاهرات التي تشهدها معظم المناطق اللبنانية، مع ما يرافقها من أحداث، شهد لبنان حدثًا مهمًا يتصل بحماية حدوده، إذ أُقِرَّت استراتيجية الإدارة المتكاملة للحدود في لبنان. ويأتي إقرار هذه الاستراتيجية التي بدأ العمل بمشروعها منذ العام ٢٠١٢ في فترة بالغة الدقة في تاريخ لبنان، وقُبَيل انطلاق أعمال التنقيب عن النفط في ظل مطامع العدو الإسرائيلي بثرواتنا.
في ظل الأوضاع الصعبة في البلاد يلتزم جيشنا مهمته الوطنية ساهرًا على حماية المواطنين وأمنهم وممتلكاتهم وحقوقهم وحريتهم، وفي الوقت نفسه يلتزم الجهوزية التامة على الحدود.
« يؤكّد رئيس لجنة مراقبة الحدود العميد الركن مرسال بالقجي أن "جهوزيتنا ١٠٠٪، وقائد الجيش العماد جوزاف عون أولى أهمية مُطلقة لمتابعة المهمات الحدودية ونشاطات أفواج الحدود البرية. جيشنا سبّاق ومحترف في الأداء والجهوزية الحدودية، ويلتزم أعلى المعايير والمؤهلات الدولية في هذا المجال».
وقال في حديثٍ لـ«الجيش» عن منظومة حماية الحدود والاستراتيجية التي تمّ تطويرها بدعمٍ من الاتحاد الأوروبي، لخلق آلية تعاون بين الأجهزة الأمنية الأربعة وفق مهماتها وأولوياتها.
نطبّقها حتى قبل إقرارها
في ١٧ أيلول ٢٠١٩، وعقب تنفيذ فوج الحدود البرية الأول تمرينًا تكتيًا مشتركًا في منطقة العريضة الحدودية - عكار، شاركت فيه وحدات من مختلف القوى الأمنية، صرّح قائد الجيش أنّ «هذا التمرين يأتي تطبيقًا للاستراتيجية المتكاملة لإدارة الحدود» التي كانت في حينها على طاولة مجلس الوزراء بانتظار التوقيع. وقد أكّد قائد الجيش يومها أنّ الجيش وباقي القوى الأمنية، تستعد لتطبيق الاستراتيجية عبر التدريب والتمارين المشتركة. وقال: «ما شهدناه اليوم من خلال التمرين هو مستوى عالٍ من الحرفية في التنسيق بين الجيش ومختلف القوى الأمنية وتأكيد على أنّ المعابر هي مسؤولية كل القوى الأمنية وليس فقط الجيش».
في حينها لم تكن الاستراتيجية واضحة بالنسبة لكثيرين، وفي ظل انشغال الجيش في الداخل، سرت شائعات حول أمن الحدود وواقع ضبطها. أما اليوم فقد أتى إقرار الاستراتيجية الحدودية ليضع حدًّا للمزاعم ويُطمئن الرأي العام المحلي والدولي أنّ حدودنا بأمان.
تأمين الحماية لشركات التنقيب عن النفط
نُفّذَت استراتيجية الإدارة المتكاملة للحدود التي يموّلها الاتحاد الأوروبي وفق ثلاث مراحل، وقد تم تطبيق مرحلتَين منها حتى اليوم (٢٠١٢- ٢٠١٩) وبدأ العمل بالمرحلة الثالثة.
ويوضح العميد الركن بالقجي أنّ الاتحاد الأوروبي رصد ٧ مليون يورو لاستتباع المرحلة الثالثة من المشروع التي تمتدّ على مدى أربع سنوات (٢٠٢٠- ٢٠٢٤). تتعلق هذه المرحلة بتطبيق الاستراتيجية، وإعداد مذكرات تفاهم بين مختلف الأجهزة بشأن تبادل المعلومات المشتركة حول الحدود البرية والبحرية والجوية.
تتضمّن هذه المرحلة مشروع دعم الحدود البحرية لضمان الأمان في المياه اللبنانية (تؤمّن الحماية حاليًا قوات اليونيفيل). في هذا الإطار، سيتم التعاون مع الدولة القبرصية التي تملك مركز بحث وإنقاذ JRCC، وذلك لتحقيق مركز مشابه في لبنان MRCC- Maritime Rescue and Coordination Center بالتعاون مع الخبراء والمدربين القبرصيين وبدعمٍ وتمويل من الاتحاد الأوروبي. أقرّ مجلس الوزراء إنشاء هذا المركز في ٢٧/٦/٢٠١٩. وتمّ تحديد مكانه وإنشاء اللجنة الخاصة به، علمًا أنّه يحتاج إلى تجهيزات وعتاد خاص وأجهزة تحسس وطوافات ومراكب وعتاد تحديد مواقع (منظومة مترابطة من المراقبة والبحث والإنقاذ).
وتتضمّن هذه المرحلة أيضًا دعم المدرسة البحرية (لتدريب القوات البحرية)، وتحقيق غرفة عمليات مشتركة لمختلف الأجهزة، وتفعيل الغرفة البحرية المشتركة.
تكمن أهمية هذا المشروع في سد الثغرات بين قدرات الأجهزة الأربعة لحماية الحدود البرية وتلك اللازمة لتنفيذ مهمات بحث وإنقاذ ضمن مياهنا الإقليمية. التركيز اليوم هو على المهمات البحرية من خلال إنشاء مركز البحث والإنقاذ وفق الاتفاقية الدولية للبحث والإنقاذ البحريَّين للعام ١٩٧٩، وهو قيـد التنفيـذ. هـذا المركـز أساسي لإعطاء الثقـة والطمأنينـة وتأميـن شروط الحماية لشركات التنقيب عن النفــط، من خلال تأمين سرعة التدخل والإنقـاذ وتحديد التهديد ومنعه.
مراحل استراتيجية الإدارة المتكاملة للحدود
- المرحلة الأولى (٢٠١٢- ٢٠١٥): تضمّنت إعداد خطة طوارئ عملياتية وتنفيذها والتنسيق بين الأجهزة الأمنية المكلفة حماية الحدود، وتنظيم الاستراتيجية، وإعداد مذكرات تفاهم مبدئية للتعاون بين مختلف الأجهزة، وعقد اجتماعات دورية، بالإضافة إلى تأمين التجهيزات اللازمة والتدريب عبر الهبات.
- المرحلة الثانية (٢٠١٥- ٢٠١٩): تمثّلت بإنشاء مركز تدريب أفواج الحدود البرية في قاعدة رياق الجوية، حيث تتلقى أفواج الحدود وباقي الأجهزة الأمنية المعنية التدريبات المطلوبة لضبط الحدود. تضمّنت هذه المرحلة أيضًا العمل على تحليل الثغرات في الأفواج لمعالجتها، وزيارات ميدانية إلى الخارج.
عودة إلى البدايات
في أعقاب حرب تموز ٢٠٠٦ وصدور القرار الدولي رقم ١٧٠١، أُثير الحديث عن مراقبة الحدود اللبنانية وضبطها بشكلٍ تام منعًا لدخول الأسلحة والممنوعات إلى داخل لبنان. استعانت الحكومة اللبنانية في حينها بالدولة الألمانية ليتم وضع المشروع التجريبي لنظام الإدارة المتكاملة للحدود اللبنانية الشمالية بدايةً، وبقي المشروع قيد التداول حتى العام ٢٠١٢ ودخول البريطانيين فيه. وفي العام ٢٠١٦ دخل الأميركيون في مشروع مشترك إلى جانب البريطانيين.
يومها أصدرت الحكومة مرسومًا قضى بإنشاء لجنة وزارية لدراسة استراتيجية مراقبة الحدود، ثم أوكِلت المهمة إلى الجيش اللبناني الذي أمّن وضع استراتيجية وطنية للإدارة المتكاملة للحدود، بمشاركة لجنة مراقبة الحدود وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي عبر ممثله في لبنان رئيس الخبراء التقنيين في المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة ICMPD السيد Phil Johnson. ركّزت هذه الاستراتيجية على تعزيز أمن المواطنين والاستقرار الإقليمي، وتسهيل التجارة والتنمية والتواصل البشري، علمًا أنّ اللجنة الخاصة بإدارة الحدود هي اللجنة الوحيدة في الدولة اللبنانية التي تجمع الأجهزة الأربعة المعنية بحماية الحدود وضبطها وتنسّق في ما بينها بقرارٍ حكومي.
أربعة أجهزة لضبط الحدود
تنحصر مهمة حماية الحدود في كل دول العالم بجهازٍ أمني واحد أو إثنين على الأكثر. لبنان هو من الدول القليلة التي تُسند فيها هذه المسؤولية إلى أربعة أجهزة: الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام والجمارك.
أُعدَّت الاستراتيجية بروحية الأجهزة الأمنية اللبنانية ورؤيتها، وبما يتوافق مع حاجات لبنان وأولوياته وطبيعة حدوده، ومن دون أن ترتب على الخزينة أي كلفة مالية. وهي ترتكز على كيفية إنشاء آلية لضبط الحدود البرية والبحرية والجوية عبر إنشاء مراكز تنسيق بين الأجهزة وتحديد مهماتها وتأمين المعدات اللازمة والكادر البشري، وتحديد هيكلية إدارية لهذا المشروع.
وقد تمّ تحديد مهمة كل من الأجهزة الأربعة وفق الآتي:
- الجيش: يتولى مراقبة الحدود ومن ضمنها الثغرات والمعابر غير الشرعية للحؤول دون أعمال التهريب، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وضبط المخالفين.
- الأمن العام: يراقب دخول الأشخاص وخروجهم من لبنان وإليه عبر المعابر الحدودية والمرافئ والمطار، ويضبط الهجرة وخصوصًا غير الشرعية.
- الجمارك: يكافح تهريب البضائع والأشخاص ويستوفي الرسوم الجمركية والضرائب على البضائع المستوردة إلى لبنان.
- الأمن الداخلي: يساهم في مراقبة الحدود وضبطها في نطاق المخافر في المناطق وبقع العمليات الحدودية، ويعالج أوضاعها القانونية.
مكوّنات الدعم
يتضمّن الدعم الأوروبي من خلال ICMPD في لبنان خمسة مكوّنات، كلّ منها يعمل على حدة ولكن بارتباط مع الاتحاد:
- المكوّن الأول: مشروع الـIBM لوضع استراتيجية لإدارة الحدود البرية والبحرية والجوية في لبنان بدعمٍ من الاتحاد الأوروبي.
- المكوّن الثاني: مشروع هولندا، ويتضمّن دعمًا مباشرًا ومساعدة في التدريب والدورات وتجهيز مركز تدريب أفواج الحدود البرية، مع تجهيز عدد من الأفواج بالطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء.
- المكوّن الثالث: مشروع سويسرا للتدريب حول الجندرة والقانون الدولي الإنساني والإتجار بالبشر وقوانين الهجرة.
- المكوّن الرابع: مشروع الدانمارك في ما يختص بالأمـن السيبـراني مع الأمـن العـام، بانتظـار العمـل مـع الجيــش حيــن يتوافـر مركـز Security Operation Center.
- المكوّن الخامس: مشروع الاتحاد الأوروبي ومركز Cersa الخاص بالمطار من حيث التجهيزات وإدارة الكوارث، والمساعدة في تعزيز حماية المطار وتفعيل التعاون والتنسيق بين مختلف أجهزته.
في المكوّن الأول، مشروع IBM، تأتي استراتيجية إدارة الحدود للتنسيـق بيـن الأجهزة الأربعة التي تتعاون في هذه المهمة. هذا المشروع يخضع لمتابعة مستمرة ولتقييمٍ مركزي من الاتحاد الأوروبي وقيادة الـICMPD حيث يأتي وفد من فيينا كل ثلاثة أشهر لمراقبة العمل والأداء.
أما مجال المساعدات فيتضمّن: مولدات كهربائية، خزائن آمنة وأجهزة كمبيوتر، تدريب في المواد ذات الصلة (كشف تزوير المستندات، التحقيق والتفتيش على الحدود، البحث والإنقاذ البري، الاستجابة لحالات الطوارئ، ومراقبة الشواطئ...)، بالإضافة إلى معدات متطورة وتجهيزات لمكافحة التزوير وتحقيق مركز تدريب أفواج الحدود الذي يضمّ اختصاصيين وخبراء في تدريب إدارة الحدود ومراقبتها بطريقة محترفة وفق المعايير والممارسات الدولية (كاميرات، تفتيش، تزوير، تحقيق، تعامــل مــع أسلحــة الدمــار الشامــل، القتال علــى الحــدود، دوريــات استطــلاع...).
اليوم بعد إقرار استراتيجية الإدارة المتكاملة للحدود، وتوحيد العمل وسدّ الثغرات المُحتملة، أكّد لبنان للمجتمع الدولي أنّ حدودنا البرية مضبوطة وقد بلغنا أعلى نسب الجهوزية في هذا الإطار. والعمـل اليـوم جـارٍ على قـدم وسـاق لوضـع الاستراتيجية قيد التنفيذ مع خطة العمل الخاصة بها، وبالتالي تحقيق كفاية ذاتية وجهوزية مماثلة في حماية حدودنا البحرية، خصوصًا مع دخول لبنان مرحلة التنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية.