خيرالله خيرالله
يؤكّد قرار الحكومة السودانية القاضي بدفع تعويضات الى عائلات ضحايا المدمّرة الاميركية " يو. اس. اس. كول" إصرارا على الذهاب الى النهاية في إعادة تأهيل البلد واجراء قطيعة كاملة مع الماضي. الماضي هنا هو المرحلة الممتدة منذ الانقلاب العسكري لجعفر نميري في 1969 الى تاريخ سقوط الرجل الذي جاء عهد عمر حسن البشير بين 1989 و 2019 استكمالا له بطريقة او باخرى. كان عهد البشير في الواقع مكملا لعهد النميري. جمع التخلّف بين ضابطين سودانيين كانا يطمحان الى البقاء في السلطة الى الابد اعتمادا على السياسة الانتهازية تحديدا.
هناك خطوات عدّة، في اتجاه بناء سودان جديد من دون عقد، أقدمت عليها حكومة عبدالله حمدوك بغطاء من المجلس السيادي الذي على رأسه الفريق عبد الفتّاح البرهان الذي لم يتردّد قبل فترة قصيرة في عقد لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في عنتيبي (اوغندا). من الواضح ان هذا اللقاء الذي شدّد بعده البرهان على انه من اجل خدمة "المصالح العليا للسودان وامنه" يعني الكثير، لكنّه يعني خصوصا ان السودان يريد فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة ومع إدارة دونالد ترامب تحديدا. اكثر من ذلك، هناك قناعة بان على السودان سلوك خط جديد وثابت في الوقت ذاته يختلف تماما عن ذلك الذي كان سائرا فيه منذ عقود عدّة.
زار عبدالله حمدوك واشنطن في أواخر العام الماضي. فهم هناك ما هو المطلوب من السودان، بما في ذلك تسليم عمر حسن البشير الى المحكمة الجنائية الدولية. لا شكّ ان مثل هذه الخطوة في غاية الاهمّية، خصوصا انّها ستثير الرعب لدى رؤساء عرب آخرين مثل بشّار الأسد الذي استخفّ، اقلّه الى الآن، بـ"قانون قيصر" الذي مرّ في مجلسي الكونغرس ووقعه دونالد ترامب. يفرض "قانون قيصر" عقوبات جديدة على النظام السوري ويتوعّد بملاحقة اركان النظام بسبب جرائم قتل وتعذيب موثقة عن طريق آلاف الصور التقطها مصوّر سوري صار اسمه عند الاميركيين "قيصر".
كان في استطاعة السودان الاخذ والرد طويلا في موضوع المدمرة الاميركية التي هاجمتها عناصر من "القاعدة" في ميناء عدن في تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 2000. قتل في عملية تفجير "كول" 17 اميركيا. ما نفع الاخذ والود في مثل هذه الحالات ما دامت واشنطن اتخذت قرارها عن حقّ او غير حقّ.
تفاديا لاي نزاع مع الإدارة الاميركية ونظرا الى ان السودان كان في تلك الفترة من بين الاماكن التي فيها وجود لـ"القاعدة"، قررت حكومة عبدالله حمدوك التوصّل الى تسوية مع إدارة ترامب. حصلت على حسم كبير. لن تدفع اكثر من ثلاثين مليون دولار جزاء على إيواء السودان لاسامة بن لادن في مرحلة معيّنة ولعناصر من "القاعدة" لدى مهاجمة زورق فيه انتحاري المدمّرة "يو. اس. اس كول" التي كانت راسية في ميناء عدن.
يبدو ان الحكومة السودانية تعلّمت من دروس الماضي. من دروس الماضي السودانية ومن دروس مرّ فيه آخرون مثل معمّر القذّافي. ولكن الى ايّ حدّ تعلّمت؟ الأكيد ان الحسم الذي حصلت عليه تضمّن مراعاة أميركية لها. فالقذافي اضطر، لدى اعترافه في العام 2003 بمسؤولية ما كان يسمّى "الجماهيرية" عن كارثة لوكربي، الى دفع مليارين و700 مليون دولار تعويضات. احتاج القذّافي الى خمس عشر سنة كي يعترف أخيرا بمسؤوليته، ومسؤولية بلده، عن جريمة قررت الولايات المتحدة الباسه ايّاها. وافق على ذلك، على الرغم من معرفته التامة بان هذه الجريمة لم تكن محض ليبية، اذ كان لـ"الجماهيرية" شركاء فيها. ما ليس سرّا ان تفجير طائرة "بانام" الاميركية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية في كانون الاوّل – ديسمبر 1988 كان عملية مشتركة لم تكن ليبيا وحدها مسؤولة عنها. كان هناك الايراني الذي أراد الردّ على اسقاط الاميركيين طائرة ركاب "آرباص" في الخليج وكانت هناك منظمة فلسطينية تابعة للأجهزة السورية (الجبهة الشعبية – القيادة العامة) مكلّفة العمل لمصلحة الايرانيين. كانت ليبيا متورّطة في تلك المرحلة في علاقة قويّة مع ايران على كلّ المستويات. شملت هذه العلاقة ارسال صواريخ بعيدة المدى الى طهران. استخدمت هذه الصواريخ في قصف مدن عراقية، بينها بغداد، في الحرب العراقية – الايرانية.
في نهاية المطاف، وجدت ليبيا مع انتهاء الحرب الباردة ان عليها تحمّل مسؤولية جريمة لوكربي وان تدفع الثمن وحدها بعدما قرّرت واشنطن لاسباب خاصة بها استبعاد أي تهم لإيران او للأجهزة السورية و"القيادة العامة" المتخصصة في كلّ انواع التفجيرات. امتلك القذافي ما يكفي من الحكمة للقبول بالامر الواقع من اجل انقاذ نظامه. نجح في ذلك ولم ينجح لاسباب كثيرة. من بين هذه الأسباب عدم ادراكه ان العلاقات الطبيعية مع اميركا تحتاج الى ما هو اكثر من تبني جريمة لوكربي ودفع المبلغ المطلوب، حتّى لو كان هذا المبلغ كبيرا من اجل إرضاء عائلات نحو 270 ضحيّة.
هل يستفيد السودان من الدرس الليبي؟ يطرح مثل هذا السؤال نفسه بإلحاح في ضوء الخطوات التي اقدم عليها النظام الجديد الذي خلف نظام عمر حسن البشير. هذا يعني بكلّ بساطة ان الخطوات السودانية ليست كافية، بما في ذلك لقاء نتانياهو- البرهان والاستعداد للتجاوب مع المحكمة الجنائية الدولية التي هي عصا غليظة أميركية لا اكثر.
ثمّة حاجة بكلّ بساطة الى إصلاحات في العمق تجعل من السودان دولة تمتلك مؤسسات ديموقراطية تضمن التداول للسلطة بدل العودة الى نظام ديكتاتوري على نسق ما كان عليه النظام أيام النميري او البشير. كان غياب هذه الإصلاحات وراء مقتل القذافي بالطريقة التي قتل بها في العشرين من تشرين الاوّل – أكتوبر 2011. اعتقد الرجل انّ المصالحة مع اميركا ودفع المبلغ المطلوب والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل تغني عن الذهاب الى ما هو ابعد من ذلك على الصعيد الداخلي.
من المهمّ التفكير في الخارج وفي الولايات المتحدة بالذات. لكن الاهمّ التفكير في ان السودان الذي شهد ثورة شعبية حقيقية، أدت الى عزل البشير، دخل بالفعل مرحلة جديدة تؤدي الى قيام دولة مؤسسات تؤمّن تداولا للسلطة وليس ما يشبه المراحل الانتقالية التي انتهت الى استيلاء الجيش على السلطة عبر ضابط مستعد لكلّ شيء من اجل البقاء فيها... الى الابد!