تراث رمضان(٨):
زياد سامي عيتاني*
"يا نايم وحد الدايم، يا نايم وحد الله...
قوموا على سحوركن، اجا رمضان يزوركن...
رمضان كريم... رحمن رحيم...
يا صايم... بتلقى السعادة، بتلقى النعيم...
رمضان كريم... رحمن رحيم..
من منا لا تسحره هذه العبارات التي كان يرددها "المسحراتي" بصوته الجهوري الجميل في حارات وأزقة بيروت وهو ينقر على طبلته التي لاتفارقه، موقظاً الناس للسحور، لتعيده إلى ذلك الزمن الذي كنا نشعر فيه حقيقة بأجواء رمضان بنورانياته ونفحاته وأجوائه الإيمانية الساحرة؟
ف"المسحراتي" ظاهرة، رمضانية قديمة، وتقليد تراثي عريق بين العصور والأجيال منذ زمن بعيد، إرتبط بشكل وثيق بشهر رمضان المبارك وصار ملازماً له.
فبمجرد ذكر رمضان، على الفور يجول في الأذهان "المسحراتي"، خصوصاً وأن طبلة "المسحراتي" لها إيقاع خاص في ذاكرة المعمرين، لأنه يعيدهم إلى أيام خلت عندما كانوا يتسحرون على أنغام طبلته وصوته الشجي.
**
•قدم المسحراتي من عهد الرسول:
إرتبطت مهنة المسحراتي بالصيام في شهر رمضان، وكان الصحابي الجليل بلال بن رباح ، أول مؤذن في الإسلام ، وابن أم مكتوم، يقومان بمهمة إيقاظ المسلمين للسحور، فكان بلال يطلق صوته بالآذان، فيبدأ المسلمون في تناول السحور، ومع إقتراب الفجر، يتولي ابن أم مكتوم النداء مرة أخرى، ليعلن الناس بالإمساك.
ومع تطور الدولة الإسلامية وإتساع رقعتها، إستخدم أهل الدول العربية، من العرب والموالي، وسائل متعددة لإيقاظ الناس للسحور، فكان أهل بلاد اليمن والمغرب العربي، يدقون الأبواب، وفي الشام كانوا يطوفون عل البيوت ويعزفون علي العيدان والطنابير، وينشدون أناشيد خاصة برمضان، وفي مصر إستخدموا الطبلة لأول مرة، لإيقاظ الصائمين.
**
•المسحراتي في بيروت:
تأثرت بيروت وتفاعلت خلال الحقبة الماضية وفي عصرنا الحاضر بظاهرة "المسحراتي"، الذي صار مع مرور الزمن يشكل جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له. فما أن يهل هلال رمضان حتى يتطوّع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحراتي"، بعدما يكون ارتدى زياً خاصاً، فيجول في الشوارع ليلاً ضارباً على طبلته بقضيب من "الخيزران" ومرسلاً صوته الشجي بأناشيد دينية ومناداته للناس بأسمائهم ودعوتهم لتناول طعام السحور.
فقبل الإمساك بحوالي ساعتين، يبدأ المسحراتي جولته الليلة في الأحياء الشعبية، ينادي علي الأهالي بأسمائهم، وينتظره الأطفال في النوافذ، ويقذفون له الحلوى، لينادي عليهم بالاسم.
**
•المسحراتيون ومدح النبي:
وكان "المسحراتي" بين الحين والآخر، يقف لينشد مديحاً في رسولنا الكريم بلحن شجي، أو إبتهالاً دينياً يُسبّح فيه الله ويمجده بصوت رخيم يفيض محبة وتقوى، فتسمع مناجاته في كل منزل، بعد أن تكون قد شقت السكون المخيم، فيضفي على ليالي رمضان أجواء من الكسينة تمتزج فيها الرهبة والخشوع بالسعادة والفرح.
وكم يذكر المعمرون بلاغة الأناشيد القديمة، ومن نماذجها:
يا نائم الليل كما ذا تنام
قم واذكر الحي الذي لا ينام
مولاك يدعوك لرحمته
وأنت مشغول في طيب المنام...
**
•فرقة مسحراتية:
جرت العادة قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من "المسحراتية"، هي عبارة عن مجموعة من المنشدين ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق أصواتهم سكون الليل لتُسمع مناجاتهم في كل الأرجاء.
**
*مواصفات "المسحراتي":
كان يُفترض بـ "المسحراتي" أن تتوافر فيه شروط ومواصفات لا بد من أن يتمتع بها حتى يحظى بشرف تولي أمر التسحير. يجب أن يكون ذا ثقة عند الناس وحسن السمعة وأن يتمتع بصوت جميل وأن يجيد الإنشاد وشعر التسحير وأن يعرف كل سكان المحلة التي يجول فيها.
فمن المعروف أنه لم يكن يتولى أمر التسحير إلا من يجد في صوته رقة تجعل إنشاده محبباً وبيانه حسناً وإشارته لطيفة.
وكان "المسحر" في بيروت القديمة يعرف كل سكان الحي، لذلك فأنه في جولاته بطبلته كان ينادي كل صاحب دار باسمه أو بكنيته "يا أبا فلان" فإذا أجابه قال له: وحد الله.
اذلك، جرت العادة قديماً وفي الأسبوع الأخير من شهر شعبان، عندما يتطوع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة "المسحراتي"، أن يطوف على البيوت والمنازل ليكتب أسماء من إستجد من الأطفال والسكان، حتى يذكر أسماءهم ويدعوهم للسحور، عندما يبدأ شهر رمضان.
ولم يكن المسحراتي خلال الشهر الكريم، يتقاضى أجراً، بل كان ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة، فيوالي الضرب على طبلته، فيهب له الناس المال والهدايا والحلويات، ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد.
ومن تقاليد التسحير أن لكل "مسحراتي" منطقة نفوذ لا يتخطاها زميله في هذه المهنة المؤقتة، لأنه سوف يحصل من أبناء المنطقة على أجر تسحيره.
وقديماً كانت تحدث مشاجرات بين مسحراتي وآخر يتعدى على منطقة نفوذ زميله، فيقال في المثل: "إنت لح تطبل في المطبل؟!"، أي أن هذه المنطقة تم التطبيل وتسحير الناس فيها فلا داعي لإعادة التطبيل.
**
"المسحراتي"، هو كروان شهر رمضان ونجمه من الزمن الجميل ما يزال ظاهرة رمضانية راسخة تقاوم كل أشكال الحداثة والتطور لتضفي على رمضان أجواءه التراثية المحببة...
- يتبع: تاريخ وتطور "المسحراتي.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي-عضو جمعية تراث بيروت.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.