6 أيار 2020 | 22:42

منوعات

‏"الكنافة".. حلوى الملوك!‏

تراث رمضان(١٢):‏


زياد سامي عيتاني*‏


سقى الله الكنافة بالقطر

وجاد عليها سكراً دائم الدر

وتباً لأوقات المخلل

إنها تَمُر بلا نفع وتحسب من عمري


‏"الكنافة" حكاية رمضانية سنوية ممتدة عبر القرون وهي تتربع على المائدة الرمضانية في ‏بيروت وأغلب المدن العربية، متوجة نفسها ملكة الحلويات خلال الشهر الكريم منذ مئات السنين، ‏حيث يُقبل عليها الصغار والكبار عند إفطارهم ولدى سحورهم. فلا تحلو مائدة رمضان دون أن ‏تتربع الكنافة على عرش أطباق الحلويات التي تلازم الشهر الكريم.‏

لذلك، نجد أن كل محلات بيع الحلويات العربية في بيروت تعطي حيزاً كبيراً للكنافة خلال شهر ‏رمضان، نظراً لإشتداد الطلب عليها، فنرى "صدور" الكنافة تزين واجهاتها، حيث تعرض ‏بطرق فنية يصعب مقاومتها عند الإفطار.‏

‏**‏





‏•تعدد الروايات حول أصل الكنافة:‏

‏ تعددت الروايات التي تخبرنا عن بداية ظهور الكنافة، وكيف تنازع المصريون وأهل الشام ‏السبق لنسب إبتكارها وبداية ظهورها لأنفسهم.‏

إذ يذكر المؤرخون في واحدة من الروايات أن أول من أكلها هو معاوية بن أبي سفيان، وكان ‏ذلك في شهر رمضان، وقيل في سبب ذلك أنه كان يجوع كثيراً في نهار صومه فنصحه طبيبه ‏بأن يأكل "الكنافة" في السحور كي تخفف عنه بعض جوع النهار، بعد أن وصفها له الطبيب محمد ‏بن آمثال، بحسب ما يروي السيوطي عن إبن أبي فضل الله العمري.‏

رواية أخرى تنفي الأولى وتقول أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمي، وقد عرفها ‏المصريون قبل أهل بلاد الشام، وذلك عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ‏القاهرة وكان ذلك في شهر رمضان فاستقبله الأهالي بعد الإفطار وهم يحملون الهدايا ومن بينها ‏الكنافة بالمكسرات كمظهر من مظاهر الكرم.‏

‏**‏





‏•تطويرها في بلاد الشام:‏

وقد إنتقلت الكنافة إلى بلاد الشام عن طريق التجار وتفنن أهلها في تطويرها وإعدادها مدخلين ‏عليها الجبنة والقشطة والفستق والجوز واللوز وتحليتها بالقطر أو عسل النحل.‏

ويدعم أصحاب الرأي الثاني روايتهم بأن الكنافة ليست الطعام الوحيد الذي يدفع به الجوع، وهي ‏ليست علاجاً حتى يصفه الطبيب إبن آمثال.‏

كما يدعمون حجتهم بأنه لو عرفت الكنافة منذ عصر معاوية لذكرها الشعراء فيما ذكروا من ‏أطعمة، إذ أنهم وحتى العصر العباسي الثاني لم يأتوا على ذكرها في أشعارهم.‏

‏**‏




‏•إزدهارها في العهد الفاطمي:‏

أياً يكن نسب الكنافة سواء كانت شامية أو مصرية، المؤكد أنه في العصر الفاطمي زادت شهرة ‏‏"الكنافة" وذاع صيتها وكانت زينة موائد خلفائهم. وقد إتخذت مكانتها بين أنواع الحلوى التي ‏إبتكرها الفاطيمون، وأصبحت بعد ذلك من المظاهر المرتبطة بشهر رمضان المبارك في العصر ‏الأيوبي والمملوكي والعثماني والحديث، بآعتبارها طعاماً لكل غني وفقير مما أكسبها طابعها ‏الشعبي.‏

‏**‏




‏•أصل التسمية:‏

و"الكنافة" إسم عربي أصيل وتعني: الظل والصون والحفظ والستر والحصن والحرز والجانب ‏والرحمة. فكنف الله تعني حرزه ورحمته.‏

و"الكنافة" من نِعمِ الله. والنعمة رحمة وحرز. ومن أكل "الكنافة" خف ظله وعذب منطقه وربا ‏لحمه وصفا شحمه وزال سقمه.‏

‏**‏




‏•من موائد الملوك إلى الفقراء:‏

وانطلقت الكنافة من موائد الملوك والأغنياء لتصل إلى موائد الفقراء، ورغم تعاقب العصور ‏والأزمنة لم تهتز أو تتراجع مكانة الكنافة على موائد الأغنياء رغم وجودها بشغف على موائد ‏الفقراء حتى انها ساوت بينهما في طعام واحد يلتهمونه بِنَهم.‏

وكان الفقراء من الشعراء يستهدون الكنافة من الأعيان والموسرين بشعر فيه إلحاح كبير ودعابة ‏مضحكة وفكاهة مطربة، فمن ذلك قول الشاعر المتقدم وهو:‏

أيا شرف الدين الذي فيض جوده ‏

براحته قد أخجل الغيث والبحرا

لئن أمحلت أرض الكنافة إنني لأرجو لها من سحب راحتك القطرا

فعجل بها جوداً فماليحاجة ‏

سواها نباتاً يثمر الحمد والشكرا

‏**‏

ومن الحكايات القديمة التي يتداولها الناس، أن أحد الرجال غضبت منه زوجته فغادرت إلى ‏منزل أهلها، دون أن يتمكن المصلحون من تصالحمها. وعندما دخل شهر رمضان تذكرت ‏الزوجة حب زوجها لـ"كنافتها" فبعثت إليه بصينية "كنافة" فآبتهج وحملها إلى زوجته في بيت ‏أهلها، فما إن انطلق مدفع الإفطار حتى أفطرا سوياً على "الكنافة" فتصالحا وصفيت قلوبهما. ‏فكان "للكنافة" أثراً أفعل من المصلحين.‏

والمعروف أن المصريين يتناولون كميات كبيرة من الكنافة في شهر رمضان، حتى أنهم في عام ‏‏917هــ ارتفع ثمنها مع القطايف بشكل جنوني، فتقدم أهل مصر إلى الوالي بشكوى على شكل ‏قصيدة يقولون فيها:‏

لقد جاء بالبركات فضل زماننا

بأنواع الحلوى شذاها يتضرع

فيا قاضياً رخص لنا الكنافة نطيب ونرتع

‏**‏

‏•تطويرها:‏

وطرأت على "الكنافة" بعض التطورات في العقود الماضية، لعل من أبرزها إستخدام الماكينات ‏الآلية في صنعها بدلاً من الكوز المخروم. وأبدعت كل دولة عربية في طريقة صنع "الكنافة" ‏وحشوها. فأهل الشام وطرابلس يحشونها بالقشطة. وأهل مكة يحشونها جبناً بدون ملح. وأهل ‏نابلس برعوا في "كنافة" الجبن حتى إشتهرت وعُرفت بـ"الكنافة النابلسية".‏

ونظراً لعراقة مهنة صناعة "الكنافة" التي إرتبطت بعائلات معنية توارثتها عبر الأجيال بكل ‏مهارة وتفنن، فإن الكثير منها كنيت بـ"الكنفاني" وإنسحبت هذه الكنية على العديد من العائلات في ‏عدد من الدول العربية التي تمتهن صناعة "الكنافة".‏

‏**‏

وعلى الرغم من أن الكنافة هي زينة موائد الملوك وحكاية رمضانية عمرها مئات السنين، فإن ‏ثمة عداوة ومنافسة مزمنة بين "الكنافة" و"القطايف" خلال رمضان. وهذا ما صوره أحد ‏الشعراء بقوله:‏

غدت الكنافة بالقطايف تسخر

وتقول: إني بالفضيلة أجدر

طُويت محاسنها لنشر محاسني

كم بين ما يطوى وآخر ينشر

فحلاوتي تبدو وتلك خفية

وكذا الحلاوة في البوادي أشهر

‏**‏

‏-يتبع: القطايف.‏

‏*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

6 أيار 2020 22:42