تراث رمضان(١٢):
زياد سامي عيتاني*
سقى الله الكنافة بالقطر
وجاد عليها سكراً دائم الدر
وتباً لأوقات المخلل
إنها تَمُر بلا نفع وتحسب من عمري
"الكنافة" حكاية رمضانية سنوية ممتدة عبر القرون وهي تتربع على المائدة الرمضانية في بيروت وأغلب المدن العربية، متوجة نفسها ملكة الحلويات خلال الشهر الكريم منذ مئات السنين، حيث يُقبل عليها الصغار والكبار عند إفطارهم ولدى سحورهم. فلا تحلو مائدة رمضان دون أن تتربع الكنافة على عرش أطباق الحلويات التي تلازم الشهر الكريم.
لذلك، نجد أن كل محلات بيع الحلويات العربية في بيروت تعطي حيزاً كبيراً للكنافة خلال شهر رمضان، نظراً لإشتداد الطلب عليها، فنرى "صدور" الكنافة تزين واجهاتها، حيث تعرض بطرق فنية يصعب مقاومتها عند الإفطار.
**
•تعدد الروايات حول أصل الكنافة:
تعددت الروايات التي تخبرنا عن بداية ظهور الكنافة، وكيف تنازع المصريون وأهل الشام السبق لنسب إبتكارها وبداية ظهورها لأنفسهم.
إذ يذكر المؤرخون في واحدة من الروايات أن أول من أكلها هو معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك في شهر رمضان، وقيل في سبب ذلك أنه كان يجوع كثيراً في نهار صومه فنصحه طبيبه بأن يأكل "الكنافة" في السحور كي تخفف عنه بعض جوع النهار، بعد أن وصفها له الطبيب محمد بن آمثال، بحسب ما يروي السيوطي عن إبن أبي فضل الله العمري.
رواية أخرى تنفي الأولى وتقول أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمي، وقد عرفها المصريون قبل أهل بلاد الشام، وذلك عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القاهرة وكان ذلك في شهر رمضان فاستقبله الأهالي بعد الإفطار وهم يحملون الهدايا ومن بينها الكنافة بالمكسرات كمظهر من مظاهر الكرم.
**
•تطويرها في بلاد الشام:
وقد إنتقلت الكنافة إلى بلاد الشام عن طريق التجار وتفنن أهلها في تطويرها وإعدادها مدخلين عليها الجبنة والقشطة والفستق والجوز واللوز وتحليتها بالقطر أو عسل النحل.
ويدعم أصحاب الرأي الثاني روايتهم بأن الكنافة ليست الطعام الوحيد الذي يدفع به الجوع، وهي ليست علاجاً حتى يصفه الطبيب إبن آمثال.
كما يدعمون حجتهم بأنه لو عرفت الكنافة منذ عصر معاوية لذكرها الشعراء فيما ذكروا من أطعمة، إذ أنهم وحتى العصر العباسي الثاني لم يأتوا على ذكرها في أشعارهم.
**
•إزدهارها في العهد الفاطمي:
أياً يكن نسب الكنافة سواء كانت شامية أو مصرية، المؤكد أنه في العصر الفاطمي زادت شهرة "الكنافة" وذاع صيتها وكانت زينة موائد خلفائهم. وقد إتخذت مكانتها بين أنواع الحلوى التي إبتكرها الفاطيمون، وأصبحت بعد ذلك من المظاهر المرتبطة بشهر رمضان المبارك في العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني والحديث، بآعتبارها طعاماً لكل غني وفقير مما أكسبها طابعها الشعبي.
**
•أصل التسمية:
و"الكنافة" إسم عربي أصيل وتعني: الظل والصون والحفظ والستر والحصن والحرز والجانب والرحمة. فكنف الله تعني حرزه ورحمته.
و"الكنافة" من نِعمِ الله. والنعمة رحمة وحرز. ومن أكل "الكنافة" خف ظله وعذب منطقه وربا لحمه وصفا شحمه وزال سقمه.
**
•من موائد الملوك إلى الفقراء:
وانطلقت الكنافة من موائد الملوك والأغنياء لتصل إلى موائد الفقراء، ورغم تعاقب العصور والأزمنة لم تهتز أو تتراجع مكانة الكنافة على موائد الأغنياء رغم وجودها بشغف على موائد الفقراء حتى انها ساوت بينهما في طعام واحد يلتهمونه بِنَهم.
وكان الفقراء من الشعراء يستهدون الكنافة من الأعيان والموسرين بشعر فيه إلحاح كبير ودعابة مضحكة وفكاهة مطربة، فمن ذلك قول الشاعر المتقدم وهو:
أيا شرف الدين الذي فيض جوده
براحته قد أخجل الغيث والبحرا
لئن أمحلت أرض الكنافة إنني لأرجو لها من سحب راحتك القطرا
فعجل بها جوداً فماليحاجة
سواها نباتاً يثمر الحمد والشكرا
**
ومن الحكايات القديمة التي يتداولها الناس، أن أحد الرجال غضبت منه زوجته فغادرت إلى منزل أهلها، دون أن يتمكن المصلحون من تصالحمها. وعندما دخل شهر رمضان تذكرت الزوجة حب زوجها لـ"كنافتها" فبعثت إليه بصينية "كنافة" فآبتهج وحملها إلى زوجته في بيت أهلها، فما إن انطلق مدفع الإفطار حتى أفطرا سوياً على "الكنافة" فتصالحا وصفيت قلوبهما. فكان "للكنافة" أثراً أفعل من المصلحين.
والمعروف أن المصريين يتناولون كميات كبيرة من الكنافة في شهر رمضان، حتى أنهم في عام 917هــ ارتفع ثمنها مع القطايف بشكل جنوني، فتقدم أهل مصر إلى الوالي بشكوى على شكل قصيدة يقولون فيها:
لقد جاء بالبركات فضل زماننا
بأنواع الحلوى شذاها يتضرع
فيا قاضياً رخص لنا الكنافة نطيب ونرتع
**
•تطويرها:
وطرأت على "الكنافة" بعض التطورات في العقود الماضية، لعل من أبرزها إستخدام الماكينات الآلية في صنعها بدلاً من الكوز المخروم. وأبدعت كل دولة عربية في طريقة صنع "الكنافة" وحشوها. فأهل الشام وطرابلس يحشونها بالقشطة. وأهل مكة يحشونها جبناً بدون ملح. وأهل نابلس برعوا في "كنافة" الجبن حتى إشتهرت وعُرفت بـ"الكنافة النابلسية".
ونظراً لعراقة مهنة صناعة "الكنافة" التي إرتبطت بعائلات معنية توارثتها عبر الأجيال بكل مهارة وتفنن، فإن الكثير منها كنيت بـ"الكنفاني" وإنسحبت هذه الكنية على العديد من العائلات في عدد من الدول العربية التي تمتهن صناعة "الكنافة".
**
وعلى الرغم من أن الكنافة هي زينة موائد الملوك وحكاية رمضانية عمرها مئات السنين، فإن ثمة عداوة ومنافسة مزمنة بين "الكنافة" و"القطايف" خلال رمضان. وهذا ما صوره أحد الشعراء بقوله:
غدت الكنافة بالقطايف تسخر
وتقول: إني بالفضيلة أجدر
طُويت محاسنها لنشر محاسني
كم بين ما يطوى وآخر ينشر
فحلاوتي تبدو وتلك خفية
وكذا الحلاوة في البوادي أشهر
**
-يتبع: القطايف.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.