زياد سامي عيتاني*
كان شارع "الجميزة" قديماً أشبه بقرية هادئة في مدينة صاخبة تسودها أجواء الأرياف، وتُماِذج بين المحافظة على طابعها التراثي الراسخ والإنفتاح المطمئن على الحداثة مع الثبات على العراقة المتمثلة بكنائسها السبع والمدارس التاريخية ودرج مار نقولا ومحترفات الخزف ومحال حرف التجارة والحدادة وبيروت الحقبتين العثمانية والفرنسية.
وهذا الشارع الذي يحمل بين حجارة بيوته وأزقته الضيقة عبق قصص غابرة، بقي مفاخراً بتاريخه وطابعه التراثي الذي لم يرحل عنه، من خلال المحافظة على منازله القديمة التي صمدت في مواجهة إندفاعية الحداثة العمارنية والتطوير العقاري، ليكون شاهداً على متغيّرات المدينة من حوله، يعتز أهله بأنهم تمكنوا من إعادة صوغ البدايات بقالب تجديدي مع التمسك بالأصالة، ترسيخاً لهويته بأنه من أقدم شوارع العاصمة، حيث يعتبرونه يوازي بأهميته من خلال تعلقهم به شوارع: «سوهو» في لندن، و«شانزيليزيه» في باريس، و«فيا فنيتو» في روما، سيما أنه حافظ على بيوته التراثيّة وأزقته الضيقة «الهاربة» من فورة العمران الإسمنت العشوائي...
ما لحق ب"الجميزة" من دمار وخراب هائلين من جراء الإنفجار المزلزل في مرفأ بيروت، بكل تداعياته الكارثية على الصعد كافة، يدفعنا للإضاءة على الأهمية التاريخية والتراثية والمعمارية لهذه المنطقة البيروتية، حتى لاتطمس معالمها وتتغير ملامحها، تحت ذريعة إعادة إعمارها(!)
***
•أقدم وأطول الشوارع:
فشارع "الجميزة" العريق، الذي بقي حتى الأمس الجار الهادىء لقلب بيروت النابض، والذي هو إمتداد جغرافي من منطقة "الصيفي"، والمطل على وسطها من جهة الشرق، حتى كان يسمى ب "جميزة الصيفي"، لتمييزه عن المحلة البيروتية الثانية المنسوبة لشجرة "الجميز"، التي كانت تقع شمال محلة "زقاق البلاط" في مزرعة "القنطاري" وتعرف تعرف بـ "جميزة يمين"، نسبة لعائلة يمين...
وشارع "الجميزة" من أقدم وأطول الشوارع اللبنانية القديمة (كما أظهرت الدراسة التي أعدها طلاب معهد الألبا عام 1983). ويعود ظهور هذا الشارع كحي سكني إلى العام 1850 ليكتمل في العام 1915.
ففي تلك الفترة شهدت بيروت نهضة تجارية سمحت بإمتداد العمران خارج سورها، وإستفاد شارع "لجميزة" من هذه الطفرة ليتشكل كما عرفناه، منذ القدم حتى يومنا هذا، وذلك بفعل أربعة عوامل:
-أولها السلطنة العثمانية مركز الحكومة إلى بيروت، فأتى العاصمة السفراء والقناصل وإزدهرت التجارة.
-ثانيها توسع مرفأ بيروت وطلب أهالي العاصمة مصيفاً خارجها.
- ثالثها فكان إنشاء المدارس الخاصة بالإرساليات الأجنبية أيام الإنتداب الفرنيس.
-رابعها حرب الجبل التي ساهمت بنزوح عدد كبير إلى المنطقة المحيطة بها.
وبفعل هذه العرامل، بدأت في تلك الفترة حالة العمران في "الجميزة" لتنشأ أبنية من أربعة طوابق كحد أقصى تعلو فوق دكاكين ومتاجر صغيرة.
***
•شارع "البيارة" قبل "الجميزة":
إن الحديث عن "الجميزة" المنسوبة إلى شجرة "الجميز" ذو شجون وفيه مادة دسمة من الذكريات، التي أصبحت من جملة الوقائع والأحداث التي دخلت في تاريخ العاصمة من بوابة الذاكرة والمرويات والموروثات الشعبية.
لكن قبل الخوص في أبعاد التسمية فإن الأمانة التاريخية تقتضي أن نشير بداية إلى أن شارع "الجميزة" قبل أن يعرف بهذا الإسم كان يطلق عليه إسم شارع "البيارة"، وهي كلمة عامية تعني الآبار، بسبب وفرة الموارد المائية، ونظراً لكثرة عيون الماء فيها.
**
•المسلم يحمي جميزة المسيحي:
من المعروف قديماً تواجد عدد كبير من شجر الجمّيز في بيروت، التي كانت شيه خالية من البنيان والسكان وقبل أن يصل إليها الإنسان والعمران بالكثافة التي عرفتها تباعاً مع تطور وتوسع المدينة، حتى أنه كان يطلق على شجرة "الجميز" صديقة البيروتي.
لذلك، تسمية المنطقة بـ "الجميزة"، فإنه يعود حتماً إلى شجرة "جميز" ضخمة، إعتاد مسنّو المنطقة التفيؤ في ظلّها وتمضية ساعات طويلة بجوارها، إلى أن قطعت لدواعي توسعة "الحي".
ولهذه "الجميزة" قصة طريفة، وفيها من مفارقات مثيرة تعطينا صورة زاهية عن مستوى الأخلاق والعلاقات الإجتماعية والإنسانية بين أبناء بيروت وأهلها.
وهذه القصة نروي ملخصها نقلاً عن المؤرخ المرحوم طه الولي الذي كشف أنه في سنة 1874 تم الإتفاق بين السلطات العثمانية وبين إحدى الشركات الفرنسية على أن تقوم الشركة بتخطيط بعض الطرقات داخل سور بيروت وخارجه وتوسيع الأسواق التجارية.
وكان في مدخل بيروت من الجهة الشرقية، الذي كان يعرف آنذاك باسم "طريق طرابلس" أرض تخص إحدى العائلات المسيحية. وكان في هذه الأرض شجرة جميز ضخمة. وذات يوم عزم صاحب الأرض على زيارة مدينة القدس في للحج، ولكنه خشي خلال غيبته في القدس أن يعبث بها بعض العابثين فعهد بحراستها إلى أحد أصدقائه من المسلمين وأوصاه أن يحافظ عليها إلى حين عودته من الديار المقدسية، وفي أثناء غيبته باشرت الشركة الفرنسية في توسيع طريق طرابلس وتعبيدها إلى أن وصل تخطيط هذه الطريق إلى تلك الأرض، فطلبت الشركة إزالة الجميزة التي كانت تعرقل أعمال التوسيع والتعبيد. فما كان من الرجل المسلم إلا أن وقف حائلاً بين الشركة وبين إقتلاع الجميزة فبادر إلى إحاطتها وطوقها بذراعيه قائلاً: إن هذه الجميزة أمانة في عنقي إلى حين عودة صاحبها فإذا أردتم بها سوءاً فابدؤوا بي.
فأخذت السطات البلدية بعين الإعتبار الدوافع الأخلاقية التي حدت بذلك الرجل أن يحافظ على الوديعة التي أمنه عليها صديقه وأوعزت إلى الشركة الفرنسية أن تتجاوز تلك الشجرة وترجىء إقتلاعها إلى أن يعود مالكها من القدس. ولما حضر صاحب الأرض وجد جميزته ما تزال تختال بجذعها الفارع وأغصانها الظليلة الوارفة...
**
•التوسّع والإزدهار:
بعد ذلك، توسَّعت المنطقة شيئاً فشيئاً، وأدّت "الجميزة" دوراً بارزاً في ربط قلب بيروت بمدينتي صيدا وطرابلس، كما ربطت بيروت بسوريا عبر الشام. هذا الوصل أدى إلى ازدهار التجارة وحركة البيع والشراء ورفع نسبة الاستهلاك، فاستقرَّ الكثير من الباعة قرب مصدر رزقهم، وكبرت العائلات، فازدادت نسبة السكّان، ما انعكس على شكل العمارات التي تحوَّلت إلى مبانٍ من عدّة طبقات. حتى بات خلال تلك الحقبة ملاحظة أسلوب بناء معظم العمارات القديمة التي تتألَّف من ثلاث إلى أربع طبقات، لتستوعب تزايد عدد السّكان.
إنَّ نشاط الحركة التجارية في المنطقة، والأثر الاقتصادي الإيجابيّ الَّذي خلَّفته علاقتها مع الجوار اللبناني والسّوري، دفع سكان منطقة الجبل اللبناني إلى النزوح والعمل في التجارة والسير باتجاه الإنماء الاقتصادي، فاكتظت الجميزة شيئاً فشيئاً، وزادت أعداد المحال التجارية، ما أدى إلى توسّع المنطقة نحو الأشرفية (شرق المنطقة)، لتصبح منطقة سكنية وتجاريّة متكاملة...
*
-يتبع: سحر التراث والأصالة.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.