- عبدالله بارودي -
الفقر، الجوع، القهر، الذلّ، ومآسي تُعدّ ولا تُحصى، جمعتهم منذ حوالي ثلاثة أشهر، حول طاولة مستديرة في أحد مقاهي مدينة الميناء الشعبية، ليتخذوا قرار "الانتحار الجماعي" في عرض البحر، عوضاً عن "الموت البطيء" مع عائلاتهم في وطنهم الأم الذي لم يعد بمقدوره تحمّل أعباءهم الاجتماعية والانسانية، في ظلّ غياب ضمائر وقلوب وفقدان وعي وأحاسيس المسؤولين في الحكم والمؤسسات الرسمية.
"مستقبل ويب" تواصل مع بعض الشباب الذين كانوا على متن "زورق الموت"، من محلّ اقامتهم في أحد مراكز الحجر الصحي في قضاء الشوف، حيث روى هؤلاء للمرة الأولى عبر الاعلام، تفاصيل وأسرار رحلتهم "المرعبة"، التي كانت منطلقاً لباقي الرحلات التي توجهت من طرابلس الى قبرص، وما حصل معهم منذ لحظة اتخاذ القرار بالمغادرة، لحين عودتهم ووصولهم الى مرفأ بيروت مساء الأحد.
بدأت الحكاية في شهر حزيران الماضي، هم جميعاً أفراداً وعائلات "مستورة " من مدينة الميناء، جمعتهم الصداقة المسبقة أولاً، وثانياً، المصائب، شدة الفقر، والعوز، لم يبقى أمامهم سوى "رحمة الله"..
اتفقوا على اللقاء والاجتماع سوياً للتنسيق في ما بينهم واتخاذ القرار النهائي. وبالفعل، جلسوا وتحدثوا وناقشوا مختلف الأمور والوقائع التي أمامهم، ووجدوا أن الأمل مفقود من هذا البلد، والبقاء فيه مستحيل، خصوصاً أن معظمهم يقع تحت ضغوطات وديون والتزامات مالية كبيرة، وعليهم أعباء ومسؤوليات لم يعد باستطاعتهم تأمينها وتوفيرها، أبسطها قوت عائلاتهم اليوميّ!"..
في نهاية اللقاء، عقدوا العزم، واتخذوا القرار بمغادرة لبنان بطريقة غير شرعية، ولم تكن وجهتهم قبرص كما نقل عبر بعض الوسائل الاعلامية، بل ايطاليا، ومن ثم طلب اللجوء اليها، علماً أنهم كانوا على دراية تامة أن هذه الرحلة لن تكون سهلة على الاطلاق، بل هي محفوفة ومليئة بالمخاطر الأمنية والطبيعية، وقد تكون نتيجتها في النهاية الموت، غرقاً أو جوعاً، لكن القرار كان قد اتخذ، فاما الموت الحتمي في لبنان، أو محاولة العيش خارجه بكرامة، حتى ولو كانت نسبة النجاح أو النجاة 1% فقط !!"..
كان الأهم بالنسبة لهم تأمين الأموال اللازمة لتغطية تكاليف الرحلة التي تستغرق حوالي اسبوع في البحر، - علماً أن معظمهم بطبيعة انتمائهم الى مدينة الميناء لديهم خبرة في البحر، والحاجات التي يتطلبها الابحار ومخاطره – وبالفعل تمّ تأمين 22 ألف دولار أميركي ( حوالي 160 مليون ليرة لبنانية على سعر الصرف الحالي في السوق السوداء)، عن طريق الاستدانة، وبيع الأغراض المنزلية او وسائل نقل كان يعمل عليها بعضهم لتأمين معيشته اليومية !..
جرى شراء القارب الضروري لهذه الرحلة ( 12 متراً بتكلفة تناهز 10 آلاف دولار)، بالاضافة الى المعدات اللازمة (الخاصة بمعرفة حالة الطقس والمسح الجغرافي ووسائل الاتصالات وسترات النجاة وبطانيات...الخ)، وأخيراً مياه وأطعمة تكفيهم طوال مدة السفر.
ثم تم الاتفاق أن يبادر بعضهم وعلى سبيل الخداع والتغطية الى الابحار بالزورق، لاكتشاف الوضع وطريقة التفتيش وغيرها من الأمور الأمنية، وكان عليهم قبل كل ذلك تأمين ترخيص لصيد سمك "التونا" من وزارة الدفاع، لأن ذلك يسمح لهم بمغادرة المياه الاقليمية اللبنانية لأكثر من ستة أميال !..
نجح أحدهم بالحصول على هذا الترخيص بشكل طبيعي، وخرجوا ثلاث مرات متتالية على سبيل التغطية ولم يحصل أي طارىء، لكن في المرة الرابعة، أوقفتهم زوارق الجيش اللبناني، أبرزوا لهم ترخيص الصيد، فسمح لهم بالمتابعة.
بعد ان اطأنوا للأوضاع الطبيعية والمعطيات الأمنية عموماً، اتفقوا على مغادرة لبنان بعد صلاة يوم الجمعة الماضي ضمن خطة تقضي بتوزيع الأفراد والعائلات على بعض جزر الميناء بحجة السباحة، ومن ثم ينطلق الزورق وعلى متنه بضعة شباب ظهراً ليتجاوزوا دوريات الجيش البحرية كما حصل سابقاً، بعدها الانتقال لأخذ الجميع من الجزر، وهو ما حصل فعلياً، لتنطلق "المغامرة" يوم الجمعة في الساعة الخامسة مساءً.
عند الساعة السابعة والنصف تجاوزوا المياه الاقليمية اللبنانية، واستمرت رحلتهم بشكل طبيعي الى حدود الساعة الثانية بعد ظهر يوم السبت، عندما بدأت تظهر بوادر هبوب عاصفة بحرية، حاولوا الاتصال ببعض السفن التي شاهدوها في عرض البحر لطلب المساعدة، وكانت أقربهم سفينة اسمها (أميغو)، نجحوا بالاتصال بقبطانها فأبلغهم ضرورة عدم الاستمرار في التقدم، لان العاصفة ستشتد خلال أميال قليلة، والتوجه نحو جزيرة ليماسول القبرصية التي كانت تبعد عنهم عشرات الكيلومترات فقط .
في الساعة الخامسة مساءً وصلوا الى حدود "ليماسول" وما هي الا دقائق حتى قدم خفر السواحل القبرصية، ولكن عوضاً عن مساعدتهم بدأووا بالتضييق عليهم ومنعهم من التقدم نحو الشاطىء وتصويرهم واستفزازهم بطريقة غير مفهومة !.. استمر الوضع على حاله لحدود الساعة الثالثة فجر الأحد وقد نجحوا خلال هذا الوقت في الاتصال ببعض أصدقائهم في أوروبا الذين بدورهم تواصلوا مع منظمة الصليب الأحمر الدولي، وأرسلوا اليهم موقع الزورق في البحر للاسراع في اغاثتهم.
وصلت قوارب الصليب الأحمر الدولي ومعهم السلطات الامنية القبرصية، أجروا لهم فحوص "الكورونا" والتي أتت جميعها سلبية، ووعدوا بنقلهم الى العاصمة القبرصية "لارنكا"، بعد أن أبلغهم جميع من في الزورق ان رحلتهم الى ايطاليا باءت بالفشل، وبأنهم يودون طلب اللجوء الى قبرص.
عند الساعة الخامسة صباحاً، وبعد ان اطمأنوا الى وعد "الأمن القبرصي" بنقلهم الى لارنكا، استسلموا للراحة والنوم. بعدها بساعتين ونصف استيقظ أحدهم، فتح جهاز تحديد المواقع ليكتشف انهم في طريق عودتهم الى لبنان!..
علا الصراخ واحتدم النقاش، استيقظ الجميع، وحين استفسروا عن هذا الاجراء، كان جواب "القبارصة"، هناك تواصل بين الحكومتين اللبنانية والقبرصية لاعادتكم الى وطنكم تنفيذاً للاتفاقيات الموقعة بين البلدين.
في الساعة السابعة ليلاً وصلوا الى مرفأ بيروت، استقبلهم عناصر الجيش اللبناني بكل احترام، جرى استجوابهم لمدة ساعة، نقلوا بعدها الى مديرية الأمن العام في بيروت، تم استجوابهم مجدداً، أجروا لهم فحوصات "الكورونا"، ثم نقلوا عبر الباصات عند الساعة الحادية عشر والنصف الى مبنى بدير القمر في الشوف للحجر الصحي.
أمس الاثنين فوجئوا بالقوى الأمنية اللبنانية تأتي لتبلغهم ان 12 شخصاً من أصل 33 أتت نتيجتهم ايجابية، ويجب نقلهم الى مكان آخر، رفضوا الانصياع للأمر، بحجة ان نتائجهم كانت سلبية في قبرص ولم يتواصلوا مع أحد، فكيف أصبحت ايجابية في لبنان؟..
اليوم هم بانتظار أي قرار من السلطات اللبنانية لمعرفة مصيرهم ومتى سيعودون الى منازلهم.
لكن المفاجأة الأكبر التي تنتظرك، حين تسألهم عن مخططهم ومستقبلهم بعد هذه الكارثة والمأساة التي ألمّت بهم، ليأتي الجواب بسرعة سنحاول مجدداً وسنغادر لبنان بأي طريقة !!..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.