المصدر: أسد فايز عيسى- طبيب أطفال وباحث في شؤون القطاع الصحي
بتاريخ 24 تموز 2020 أصدر وزير الصحة العامة قرارا حمل الرقم 979/1 يتعلق بحصر بيع اللقاحات والهرمونات في الصيدلية.
وتضمن هذا القرار بخطوطه العريضة حظر تسليم اللقاحات إلا للصيدليات الخاصة وصيدليات المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الاولية، والزامية بيع أو صرف اللقاحات بموجب الوصفة الطبية الموحدة كما يمكن للصيدلي تسليم اللقاحات للطبيب على ان يزود الاخير الصيدلي بوقت لاحق بنسخ عن الوصفات الطبية، وعلى الصيدلي لدى تسليم اللقاح التقيد بالشروط الفنية لضمان وصوله ضمن درجة الحرارة المطلوبة. كما منع هذا القرار الصيدلي إجراء اللقاح في صيدليته كما منع وصف المضادات الحيوية (Antibiotiques) والفيروسية (Antiviraux) من دون الوصفة الطبية ومنع الصيدلي ايضا من وصف ادوية الامراض المزمنة تحت أي سبب كان.
سبق صدور هذا القرار إجتماعات عديدة وإعتصامات وزيارات مكوكية بين المعنيين بهذا الملف من نقابتي الأطباء والصيادلة وجمعيتي طب الاطفال واليونسف ومنظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العامة ولجنة الصحة النيابية وغيرهم ، ورغم كل الشوائب التي إعترت هذا القرار، وبالرغم من إعتراض قطاعات الاطباء في الاحزاب والتيارات الموالية والمعارضة، كما واعتراض منظمة الصحة العالمية واليونسف اللذين سجلا اعتراضهم على هذا القرار لدى وزارة الصحة وفق ما نُقل عن المعنيين بالملف، صدر اخيرا هذا القرار في 24 تموز من هذا العام ، مع العلم أن لجنة الصحة النيابية ارسلت بهذا الخصوص مشروع قانون الى مجلس النواب طلبت بموجبه تعديل قانون مزاولة مهنة الصيدلة (وخاصة المادة 35) بشكل يسمح للأطباء إستلام اللقاحات من المستوردين مباشرة ، ولكن ما زال المشروع نائما في أدراج المجلس النيابي.
العبرة في التنفيذ
في قراءة موضوعية خلال فترة الاربعة أشهر ونيف على تطبيق هذا القرار، لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:
اولا: حُصرت اللقاحات فعلا بالصيدليات، وبدأ الأطباء وأهالي الأطفال يلهثون من صيدلية الى أخرى للتفتيش عن االقاحات لأطفالهم، مع وجود علامة إستفهام كبيرة حول نقل اللقاح من الصيدلية الى منزل الطفل ومن ثم من منزله الى عيادة الطبيب، بحيث على المرء أن يتخيّل هذا المظهر الحضاري الذي يحمل فيه الأهل كيسا بداخله قطعة صغيرة من الثلج بالكاد تشكل ربع حجم اللقاح تصل وقد ذابت إلى عيادة الطبيب.
ثانيا: لم يُطبّق من هذا القرار الا البنود المتعلقة بحفظ اللقاحات عند الصيادلة، وما زال بعضهم يصف المضادات الحيوية والادوية المزمنة دون وصفة طبية موحدة، هذا إن لم نقل أن بعض الصيادلة يلعبون دور الطبيب في هذا المجال، أضف الى ذلك أن قسما منهم ما زالوا يلقحون الاطفال في صيدلياتهم، مع كل ما يرتّب ذلك من خطر على صحة المريض والطفل .
في النتائج
اولا: خلقَ هذا القرار مواجهة هي الاولى من نوعها في تاريخ لبنان بين نقابتي الأطباء وجمعيتي طب الاطفال وأهاليهم من جهة ، وزارة الصحة العامة ونقابة الصيادلة من جهة أخرى بدل أن تكون كل هذه الأطراف المعنية يدا واحدة في الحفاظ على صحة الطفل والمواطن.
ثانيا: غيّر هذا القرار الية التلقيح السابقة (بعض النظر إذا كان مخالفا لقانون مزاولة مهنة الصيدلة أم لا ) الذي أثبت فعاليتها على مدى أكثر من خمسين عاما بحيث إحتل لبنان المراكز الاولى عالميا في مجال تحصين الاطفال من الأمراض المعدية، وهنا يتساءل المواطن العادي ما الجدوى من ألغاء الية التلقيح التي أثبت فعاليتها على مدى خمسة عقود وأكثر، والعمل بنظام جديد "قيد التجربة" في هذه الظروف الاقتصادية، وفي ظل جائحة كورونا التي تشكل أولوية صحية مطلقة؟ ، ولماذا لا يُعدل قانون مزاولة مهنة الصيدلة وخاصة المادة 35 منه ليصبح الطبيب هو المشرف على اللقاح ويتحمل مسؤولية اجرائه في عيادته أو في مراكز الرعاية الصحية اسوة بكل دول العالم المتطور؟، بدل المخاطرة بالاطفال في هذه المرحلة الدقيقة.
ثالثا: بالرغم مما تدعيه وزارة الصحة العامة بأن هذا القرار يزيد من التغطية المناطقية للقاحات ويؤمن عدالة التوزريع في 3400 صيدلية، إلا أن الواقع أثبت في 4 أشهر فقط، أن التغطية آيلة الى إنخفاض كبير وكارثي وفق الأخصائيين في نقابتي الأطباء، لأن تسليم اللقاح أصبح منوطا بمزاجية الصيدلي الذي يفضل تسليمه الى "زبونه الدائم" طبيبا كان أم لا، خاصة في هذه الفترة التي تشهد إنخفاضا في عدد اللقاحات. وهذا يضع صحة أولادنا على المحك، وهنا لا بد من التذكير بأن العدالة المناطقية كانت مؤمنة من خلال 2500 طبيب أطفال موزعين في المناطق، هذا عدا عن مراكز الرعاية الصحية الاولية والمستوصفات.
رابعا: أدى هذا القرار إلى إحتكار بعض الصيادلة الكبار للقاحات وخاصة الانفلونزا الذي بيع بأسعار خيالية في بعض الصيدليات ما يتعارض مع خطة الوزير الهادفة الى توفير اللقاح لأكبر عدد من اللبنانيين.
رسالة الى الوزير
لقد خلق هذا القرار صراعا عنيفا بين المعنيين في هذا الموضوع، وظهرت عبارات لا تليق بمطلقيها ذكرتنا بأهل السياسة "كإعادة الحقوق الى أصحابها" (الصيادلة)، و"تجارة أطباء الاطفال باللقاح" ,و"بيع اللقاح" وغيرها، بحيث تحول طبيب الأطفال الى الفاسد الوحيد في قطاع الصحة.
عذرا يا معالي الوزير، إنها أعذار أقبح من الذنوب!فإذا كان الهدف من هذا القرار الذي إتخذتموه بالتكافل والتضامن مع نقابة الصيادلة في لبنان يهدف الى تعزيز دور الصيدلي ومدخوله المتآكل مع التضخم الحاصل والذي نعتبره أمر محق وضروي، إلا أنكم أخطأتم في تحديد الهدف وتحقيقه وتغاضيتم عن عشرات المشاكل في القطاع الطبي التي كان من شأنها لو عولجت أن تنقذ ما تبقى من هذا القطاع المتهالك أصلا من جراء الهدر الذي فيه والذي يقدر بــ 40 % والفساد الذي يشوبه.
فإسمح لي وبكل تواضع أن اوضح ما يلي:قد يكون واردا أن كلفة التلقيح عند بعض الاطباء هي مرتفعة (هؤلاء الذين أُطلقت عليهم عبارة تجار) بحيث يضيفون على سعر اللقاح بدل المعاينة المرتفع، ولكن هناك أطباء في كل الاختصاصات معايناتهم مرتفعة ايضا وفي بعض الاحيان خيالية ويذهب المرضى اليهم برضاهم، واتفق معك في هذا الإطار أن هذا قد لا يتوافق مع الرسالة الانسانية للطبيب ويحمّل المواطن أعباء مادية إضافية، ولكن المسؤول الاول والاخير عن هذا الفلتان في تحديد المعاينة هو وزارة الصحة. فهل يوجد بلد في العالم يُحدَد فيه السقف الادنى لبدلات المعاينة ويُترك السقف الأعلى دون حدود؟ وعلى من تقع مسؤولية تنظيم بدلات أتعاب الاطباء وفق الإختصاص والاقدمية والإنجازات العلمية وغيرها من المؤشرات؟، طبعا مع الأخذ بعين الإعتبار الحد الادنى للاجور والمؤشرات الاقتصادية الاخرى.
وطالما أن وزارة الصحة إفتتحت مسيرة الإصلاح بإعادة الحقوق الى أصحابها وإسترجاعها من التجار (تجار اللقاحات)، ودون الدخول في التخبط الكوروني بين مكونات الدولة المعنية بهذا الملف الملح والذي ادى إلى إرتفاع مخيف بالارقام التي أصبح من الصعب السيطرة عليها إلا بالصوم والصلاة في ظل غياب خطة واضحة من الاساس تتحمل وزارتكم الكريمة جزءا منها.
لماذا لم يطل هذا الإصلاح قطاع الادوية في لبنان بحيث بعتبر سعر الدواء فيه الأعلى مناطقيا وأعلى من بعض الدول الأوروبية التي يبلغ الحد الأدنى للأجور فيها 4 مرات منه في لبنان (تبلغ قيمة "الإستهلاك السنوي للدواء للفرد 340 دولارا في لبنان و290 دولارا في فرنسا)، مع العلم ان هذه المبالغ تدفع بغالبيتها من جيب المواطن والعائلات الاكثر فقرا (out of pocket)، وما هي الحلول التي اتخذتها الوزارات المتعاقبة في هذا الخصوص؟
لماذا لم يطل الإصلاح قطاع المختبرات الطبية التي تخفي ارباحا هائلة لأصحابها؟، اذ يكفي مقارنة اسعار الفحوصات الطبية في لبنان بالدول المحيطة أو حتى بفرنسا لتجد أن معظم الفحوصات في لبنان أغلى (واحيانا بعدة مرات من هذه الدول) يدفعها المواطن ايضا من جيبه الخاص في معظم الاحيان، ولماذا لم يُعدّل مثلا سعر فحص الكورونا الذي يبلغ 150000 ل ل ولا تتعدى كلفته الخمسين ألفا؟.
لماذا لم يطل الاصلاح قطاع المعدات الطبية (stant وبطاريات القلب والمغروسات العظمية وغيرها) التي تبلغ اسعارها في لبنان اضعاف واضعاف ما هي عليه في بلدان المنشأ الاوروبية وفي دول المحيط، بحيث تسمح هذه الارباح الخيالية بتقاسمها بين المستشفى والطبيب والمورد مع العلم ان معظمها لا يدخل في لوائح المؤسسات الضامنة ويدفعها المريض من جيبه الخاص تحت عنوان "فروقات".
وماذا فعلتم في مجال تأمين "المساواة في الحصول على الخدمة الطبية" من منطلق ان "الصحة هي حق للجميع"؟، ألا تعلمون يا معالي الوزير أن مريض الوزارة الفقير ينتظر وساطة ما على أبواب المستشفيات او يموت ان لم يحالفه الحظ، بينما يتنعم الغني بامتياز اختيار المستشفى والطبيب حيث وعندما يشاء
معالي الوزير،
لن اتطرق الى الأدوية المهربة والفاسدة والى تهريب الأدوية والمواد الطبية ولا الى الأخطاء التراكمية في مجال مكافحة كورونا، ولا مجال لأن احدد شوائب القطاع الصحي في مقال كهذا والتي هي كثيرة ومتشعبة وتتطلب ورش عمل واعادة هيكليات وذهنيات جديدة، ولا اريد ان احمّلكم وحدكم وزر ما وصلت اليه الحال في القطاع الصحي، فهذه مسؤولية تتحملها الطبقة السياسية والوزراء المتعاقبون. ولكن اردت أن اثبت لمن يعنيهم الأمر بان خطوة تعديل الية اللقاحات اتت في المكان غير الصحيح وضرّت بدل ان تنفع وفرقت بدل ان تجمع، وجاءت إستنسابية إعتطباطية لأسباب يجوز أننا نجهلها كمتابعين، ولم تات ضمن خطة متكاملة لإنتشال قطاع صحي متهالك يغزوه التجار ويتآكله الفساد، ويبقى فيه المواطن الحلقة الأضعف في بلد مخلع لا يجوز عليه إلا الصلاة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.