كتب محمود القيسي (*):
"في أرض زلقة مليئة بالقواقع
أريد أن أحفر لنفسي لحداً عميقاً
حيث يمكنني عندما أشاء
أن أضع عظامي الهرمة
وأغط في النسيان كقرش يتخبطه الموج
أنا أكره الوصايا ….وأكره القبور
وبدلاً من استجداء دمعة من هذا العالم
وأنا حي ..أُفضل أن أدعو الغربان
لتدمي كل أطراف جسدي البائس
أيتها الديدان يا رفاقاً سود بلا أذن ٌ ولا عيون
أنظرن شاهدن يُقدم إليكم ميت حر سعيد
أيتها الفيلسوفات الماجنات، يا بنات العفونة
عبر خرابي توغلن بلا تأنيب ضمير
وقلن لي أهناك عذاب آخر ينتظر هذا الجسد الهرم
فاقد الروح، ميت بين موتى؟!!"
شارل بودلير
قصيدة "الميت المبتهج" من أشهر قصائد بودلير في ديوانه الأشهر "ازهار الشر" والتي تعتبر نموذجاً لفكر هذا الشاعر العظيم سواء من حيث الشكل أو المضمون، فالموت الذي ينهي عناء الإنسان في حياته هو أحد اهم اهتمامات الشاعر الأساسية. في كتابات كثيرة تطالعنا في العالم العربي اليوم، هناك مسعى إلى جمع ما تشظّى من المدن والأوطان والهويّات المختلفة، لدرجة أصبحت معها الهويّة الفرديّة جرحاً سرّيّاً وعنواناً آخر للغربة. والفَرد الغريب، في هذا السياق، ليس "الغريب" الذي وصفه ألبير كامو في روايته الشهيرة، ولا "الغريب في دياره"، حسب تعبير توني موريسون، ولا "خارج المكان" وفقَ إدوارد سعيد في سيرته الذاتية. الغريب هو المنفيّ. وكلمة منفى، هنا، لا تنحصر في معناها الجغرافي بل تتجاوزه، لتتّخذ أكثر من معنى.. نحن في عهد أصبح يعيش منفي عن ذاته موضوعياً وذاتياً في حين يموت المواطن في هذا العهد كل يوم ذاتياً وموضوعياً. نعم، لقد اصبحت الهوية الفردية والجماعية ايضاً جرحاً سرّيّاً وعنواناً آخر للغربة، والغريب ليس الغريب في دياره فقط أو خارج المكان بل المنفيّ كما وصفه جان بول سارتر حين قال: "حين يضيّع الإنسان مكانه في العالم".
نحن من بلاد ضيّعت مكانها في هذا العالم واصبحت رهينة-رهينة سلطة تعيش في أرض زلقة مليئة بالفقاقيع الوهمية والالغام الالغائية من كل الأشكال والاحجام والألوان.. سلطة تعيش بين الحفر وتخير المواطن يومياً بين ان يبني لنفسه لحداً عميقاً، او تختار له سلطة الموت قبراً جماعياً في طوابير "بنزين" الذل من هنا وطوابير "رغيف" الجوع من هناك وطوابير "بن" القهوة المرة في آخر هذ الزمن اللبناني كي تكتمل معجزة الطوابير والموت الجماعي السريع على طرقات "موت العائلات" السريع. على طرقات الطوابير التي تجعل المواطن تائهاً عن نفسه وعن الآخرين دون ان يدري أنه تائه عن نفسه وعن الآخرين. او، كما يسأل ويجيب صاحب "الهويات القاتلة" أمين معلوف" متى تعرف أنك تائه؟ عندما تقف في بلادك، وعيناك ترنو إلى بلاد أخرى. عندما تقف في بلاد لم تنشأ فيها، وعيناك ترنو إلى بلادك. عندما تبقى في بلادك، وعيناك على مستقبل تراه مستحيلا. عندما تبقى في بلادك، وعيناك على ماض لن يعود ابدا". نحن امام عهد فيه من النماذج الفريدة من نوعها ما يجعل من نظرية أصل الأنواع الداروينية في التطور مجرد نكتة علمية هشة ونظرية بدائية.. بدائية جداً وهشة. نعم، نحن في عهد النماذج الفضائية التي تعد ولا تحصى وهاكم بعض تلك "المعجزات الفضائية" في عهد المعجزات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والوجودية:
- معجزة من يضبط ساعته الرئاسية على توقيت الصهر السياسي، او من "يربط" ساعة الوطن على توقيت "إزدواجية" السلطة-سلطة ذو الرأسين.. كما فعل ماركوس أوريليوس في تكريس حكم "الظل". رئيس الظل في لبنان باسيليوس الأول، او باسيليوس عونسيوس الثاني في سلالة المعجزة العونية.
- معجزة عهد المعجزة باسيل الوريث الذي احتفل بعيد ميلاده على إيقاع أوجاع الناس العالقة في طوابير الذل والمرض والجوع والفقر والحرمان.. طوابير العهد الليموني القوي. احتفل على إيقاع (سنه حلوه يا جبران..سنه حلوه يا باسيل) احتفل على إيقاع موت الشعب الجنائزي في عهد "البوصفير" الجنائزي.
- معجزة رئيس حكومة تصريف أعمال "الفيروس" بروفيسور دياب الذي غسل يديه من الانهيار وغسل يديه من المسؤولية الوطنية والاخلاقية. حسان النعسان رئيس حكومة "الانفجار" وتصريف أعمال عهد جهنم، وضع البلد امام "خيار" الاقتصاد الفيروسي أو الفيروس السياسي. حسان إختار الحجر على نفسه في حكومة تصريف مصالح ونزوات العهد، والنوم عميقاً.
- معجزة احد وزراء حكومة "الغجر" المستقيلة في عهد الطاقة الخاصة والعتمة العامة.. وزير "الطاقة" المعجزة الذي دعى المواطنين الى ممارسة رياضة المشي، او الهرولة في قضاء حوائجنا اليومية حفاظاً على الصحة العامة وطبقة الاوزان كذلك. احد وزراء حكومة "التوكتوقراطة" العونية الغائبة عن الوعي الوطني يدعونا الى ثقافة عهد الحنطور القوي في زمن الذكاء الاصطناعي.
- معجزة الجمهورية السوداء، والكلوروفيل مجرد تمويه قوي. معجزة العرض والطلب المفخخ على الدولار وسرقة قيمة العملة الوطنية اللبنانية الشرائية القوي في عصر العهد القوي.. العهدالذي يبيع فيه المواطن ثيابه وينام في العراء بين مطرقة الجغرافيا السياسية وسندان الجغرافيا الاقتصادية في وطن العهر القوي، والكفر السياسي القوي.. في وطن السوق السوداء القوي.
- معجزة القطب المخفية من هنا والقطب المخفية من هناك. وقوافل تهريب من فوق وقوافل تهريب من تحت. وكذبة صفراء في الصباح وكذبة اورانج في المساء. وصعود دولار المافيات السياسية الى السماء وموت ليرة الشعب الوطنية على أرض الشعب الوطنية. وفي حين البلد على طريق الموت التام، عرضحالجي حكومة الأمية السياسية والأمية الوطنية المستقيلة نائم تحت سرير العهد النائم بشكل تام.
- معجزة "عفاريت" المسخ الاورانجي واسيادهم في لعبة "حاوي" ارقام التشكيلية الحكومية القادمة على قاعدة "انا وعمي، عمي وانا والحزب تالتنا" في "تكتيكات المثلث الضامن" او "الثلث (العددي) المعطل" وسياسة "إبليس" في امتلاك الشيء ونقيضه.. إبليس العهد القوي، إبليس شخصياً.
نحن في بلاد العجائب والمصائب، او في مركب مصنوع تاريخياً من كرتون وورق.. مركب مثقوب يوشك على الغرق في بحر الظلمات.. هائم على صفيح ساخن دون ربان ودون بوصلة ودون ميناء.. او كما قال يوماً شاعر "الشر" في القرن الثامن عشر في احدى قصائده الرمزية: "
غالبا ما تحملني الموسيقى كما يحملني موج البحر.. نحو نجمي الشاحب
وتحت سقفٍ من الضباب أو في أثيرٍ واسعٍ.. أبحر
فأتسلق متن الأمواج المتراكمة التي يحجبها عني الليل
إني لأشعر في داخلي بانفعالات كل مركبٍ مشرفٍ على الغرق
وأشعر بالريح المواتية وبالعاصفة واختلاجاتها.. تهدهدني فوق اللجة المترامية".
نحن في بلاد لم يعد لديها "ترف" الاختيار بين السيئ والاسوأ.. نحن في بلاد كما يقول "قبطان سفينة البلاد" في طريقنا إلى "جهنم".. وليس أمامنا سوى الاختيار بين الاسوأ، والاسوأ.. شكراً "فخامة" القبطان، القبطان الاسوأ ؟!!!
(*) عضو المكتب التنفيذي في "تيار المستقبل"
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.