عارف العبد - المدن
اشتهرت عبر التاريخ المحاكمات التي أقامها ماكسميليان روبسبيار، إبان الثورة الفرنسية 1789، والتي عرفت بمحكمة عهد الإرهاب، حين قطعت مقصلة روبسبيير ودانتون رؤوس آلالاف من الفرنسيين الذين اعتُبروا يومها من أعداء الثورة.
أما المثال الآخر للمحاكم الشعبوية الثورية عربياً، فكانت محاكمات المهداوي في العراق فترة انقلاب عبد الكريم قاسم 1958، حيث كانت جلسات المحكمة تتم أمام الجمهور ومباشرة عبر أثير الراديو والتلفزيون، باسم الشعب، بقيادة العقيد فاضل عباس المهداوي، لتصفية رجال العهد الملكي في العراق.
في روسيا البلشفية أُعدم القيصر وعائلته بعد محاكمة ثورية، للقول لأنصاره أن لاعودة إلى الوراء.
وقد أعدمت الولايات المتحدة الأمريكية صدام حسين، للقول للعالم والعرب والعراقيين أن مرحلة جديدة قد انطلقت.
الإهمال والأمونيوم
فالمحاكمات ليس بالضرورة أن يكون هدفها العدالة أو الحقيقة. بل إن قسماً كبيراً منها قد يكون الهدف منه ما يريده القاضي أو المشرف على القاضي. ونادراً ما تكشف الحقيقة وتتحقق العدالة. فالمسألة نسبية دائماً، تتقلب بين الظروف والمعطيات وموازين القوى الحاكمة.
في لبنان، حين وقع الانفجار الزلزال في مرفأ بيروت، كان مطلب أغلبية الشعب اللبناني وأهالي الضحايا هو الوصول إلى الحقيقة والعدالة، بسبب هول الكارثة وفداحة النتائج والخسائر وعمق الصدمة. إلا أن أول من تعرض للإصابة والصدمة هما –بالطبع- الحقيقة والعدالة، وليس بالضرورة أن تتحقق أي منهما!
أثار تعيين القاضي فادي صوان محققاً عدلياً في جريمة تفجير المرفأ الكثير من الملابسات والأسئلة. وأول من تعرض للخداع والاستغفال، هم أهالي الضحايا الأكثر تعرضاً للنكبة والخسائر.
ما من شك أن جريمة بهذا الحجم، وبعد تكشّف المعلومات والعناصر الأولية عن المواد الكيماوية التي تم تخزينها في العنبر رقم 12، تنم عن مزيج معقد من العناصر والأسباب المتداخلة. وما من شك أن للإهمال النصيب الكبير الذي يقف خلف ما جرى.
لكن الأكيد أن معطيات وحيدة الجانب ليست هي السبب. فلا الإهمال وحده هو السبب، ولا التقصير الإداري هو ما أدى إلى الكارثة المهولة. بل إن مجرد استعراض ودراسة مختلف العناصر والملابسات المحلية والإقليمية المحيطة، وبعض المعلومات الإعلامية في دول غربية وعربية، تفسح المجال أمام استنتاجات مفادها أن الإهمال لعب دوراً كبيراً، والفساد والترهل كما العجز وسوء التدبير، إضافة إلى الأهداف والاحتمالات والغايات السياسية من طرف أو من الأطراف التي استقدمت نيترات الأمونيوم إلى بيروت، أو عملت على استخدامها والاستفادة منها واستغلال وجودها، وربما تفجيرها من قبل متربصين.
من أتى بالسفينة؟
الذي جرى حسب الوقائع المعروفة أن البلاد دخلت ولا تزال، منذ تكليف القاضي صوان وكف يده، وانتقال التحقيق إلى قاض آخر هو طارق البيطار، لا تزال تعيش في دوامة نقاش وحيد الجانب والاتجاه شبيه بالنقاش حول جنس الملائكة، كمثل النقاش الذي أصاب البيزنطيين أبان سقوط القسطنطينية، والبحث جار عن أسئلة سخيفة، كمثل هل يمكن للملائكة الذكر أن تمر من خرم الإبرة أو لا يمكنها ذلك؟
بدل أن يعمل القاضي صوان، وهو يفترض أن يكون القاضي المتمكن والقدير في الإدراك والتفكير، على كل المعطيات.. أي الإهمال والتقصير والتدبير من الأعداء والمغرضين، أدخل البلاد في جدل عقيم وحيد الجانب. وهو هل المسؤول عن الكارثة تقصير حسان دياب أو إهمال يوسف فنيانوس أو تغاضي غازي العريضي أو غازي زعيتر وتردد علي حسن خليل؟
وهل من الضروري اتباع الأصول في الاستدعاءات والقفز فوق القوانين المنصوص عنها في الدستور أو إسقاط كل الحصانات، واعتبار الكل في دائرة الاتهام؟ وجرهم إلى التحقيقات؟
بعد كل هذا الجدل الذي أرهق البلاد وزاد من تباعدها وتفرّقها، تمكن فريق صحافي في "تلفزيون الجديد"، من كشف وطرح احتمال أن من وقف خلف إيصال شحنة الموت إلى بيروت، سفينة تابعة لشركات حركها رجال أعمال من سوريا على صلة بالنظام الحاكم، ولم يكن قاضي التحقيق قد حرك ساكناً في هذا الاتجاه، فانطلق إثر ذلك في تسطير استنابات بحث وتحر عن صاحب السفينة ومالكها ومن يقف خلفه ومعه؟!
المقاربة الأساس التي وقع فيها قاضي التحقيق من البداية كانت مقاربة قاصرة، لا تتيح التقدم باتجاه كشف خيوط أساسية من الحقيقة ولا قادرة على الاقتراب من العدالة.
الجدل والارتباك
المسألة على الأغلب ليست فقط مسألة إهمال وظيفي من قبل مسؤولين وموظفين في لبنان. وهو أمر حاصل. بل كما تدل المعطيات، هي جريمة معقدة العناصر، لعب فيها الإهمال والتقصير والفساد دوراً كبيراً ومتقدماً، بل إن الأهم من كل ذلك، هو الدوافع السياسية الخفية التي وقفت خلف أهداف وصول هذه المواد الكيماوية التي اكتشفت الأجهزة الأمنية الرئيسية بعد وقت قصير من وصولها، أنها مواد خطرة وقابلة للانفجار وتدمير العاصمة.
المفارقة التي يجب عدم إهمالها، هي لماذا دخل قاضي التحقيق الأول إلى منزل ومسرح الجريمة من النافذة، وأثار كل هذا الغبار والجدل والتقهقر والارتباك، ولم يدخل عبر الباب العريض الذي يتيحه الدستور والقانون وباقي الفرضيات؟
والأغرب من كل ذلك، أن يصبح هذا المسؤول مقصراً وتحت شبهة الإهمال وهو اختصاصي بالحاسوب، ويترك مسؤولاً آخر مهنته الحرب وثقافته المدافع والمواد المتفجرة والقذائف المدفعية، بعيداً عن السؤال.
مطبّات ومعطيات
المفارقة الغريبة أن المقاربة الضعيفة التي انطلق منها القاضي صوان، والتي تفترض الإهمال والتقصير سبباً رئيسياً خلف الجريمة، تكاد تكون هي المقاربة التي لا تزال معتمدة مع القاضي الثاني كما يبدو.
عمل القاضي بيطار منطلقٌ بقوة، بعيداً عن ارتباكات وملابسات زميله، لكنه لم يتجاوز حتى الآن أغلب المطبات، رغم معالجته بدقة ووضوح لمعطيات ارتبك فيها من كان قبله.
القاضي بيطار لا يمت بصلة إلى روبسبيار أو المهداوي، لكنه حقق خطوات متقدمة وقوية حتى الآن، وأمامه الكثير الكثير ليحققه. فهل سيبقى ضحية مقاربة الإهمال والتقصير؟ أم سينتقل إلى مقاربة ثانية أكثر إقناعاً وقوة؟ الأحداث والأيام المقبلة تحمل الأجوبة!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.