17 شباط 2022 | 09:28

أمن وقضاء

ارفعوا أيديكم عن القضاء

ارفعوا أيديكم عن القضاء

كتب عوني الكعكي:



إنّ هذه القصّة مختلقة، خيالية، لا تمت للحقيقة بصلة، بطلاها أولهما مجنون وثانيهما ظلامي، وقعت أحداثها في دولةٍ بالغة الإنهاك كانت يوماً منارةً للعالم، في عصور ما قبل التاريخ، وقد بدأت أولى أحداث تحولها إلى جمهورية سيبيريا في العام 1989 قبل الميلاد.

المجنون: جنون العظمة هو حالة مرضيّة تُعرف أيضاً بإسم الإضطراب الوهمي، ويعاني خلاله المريض من معتقدات غير عقلانية مثل إعتقاده بأنه شخص خارق يستطيع فعل ما يعجز عنه البشر، وأنه يمتلك مهارات سحرية ونظافةً إستثنائية وصفات عجائبية تعصمه عن الخطأ وترفع عنه القلم. وعلى غرابة هذه المعتقدات، فإن وهم العظمة هو أكثر من مجرد غرور أو تقدير عالٍ للذات أو شعور مبالغ فيه بأهمية الذات، وإنما يُمثل إنفصالاً وإنفصاماً عن العالم الحقيقي، ويستمر المريض بالإيمان في الوهم رغم فداحة تناقض الأدلة ورغم إنهيار الهيكل فوق رأسه وشيب شعره من غبار الركام.

قد يسخر البعض من موهوم العظمة أو يتجاهله، لكن عندما يكون المجنون في موقع سلطةٍ وازنةٍ وتحت إمرته و/أو في صفّه و/أو هو يتبع، لجيوش وأجهزة ومناصرين وأحزاب ووزارات وضباط ومشرّعين وقضاة وميليشيات، يكون الهلاك آتٍ لا محالة.

الظلامي: إنّ القوى الظلامية والمستبدّة تسلب الإنسان حقّه في المواطنة والمستقبل والعيش الآمن، وتخشى دائماً من تنوير يحرّره من قيوده، وتمارس عليه كافة أساليب الترغيب و/أو الترهيب و/أو «السحاسيح» حتى يندمج ذهنه ويتشرّب إيديولوجياتها، ويصبح ساجداً وشاكراً لأساليب الهيمنة السياسية أو الدينية التي تُمارس ضده، والإستحواذ على ثرواته، وفكره، وإعاقته عن الفعل الحضاري، وتجعله في مجتمعه غريباً وشاذاً وغير مألوف وغير مرغوب فيه.

وقوى الظلام، لا يمكن أن تجتمع تحت سقف واحد مع مفهوم الدولة أو مع الدولة القوية، فهذه القوى تستمد طاقتها وروحها من نخر بنيان الشرعية، وكلما سقط عمود من أعمدة الشرعية، يرتفع مكانه عمود لقوى الظلام.

الدولة: هي شعب وأرض وجيش وقضاء وإقتصاد.

القصة: وصل مجنون العظمة إلى السلطة يوماً في جمهورية سيبيريا في ربع الساعة الأخير تحت صرير السيوف ودوي ضرب المنجنيق قبل سنتين من إنتهاء الحرب الأهلية بين قبائل الجمهورية، وهو على قناعة تامة لا تقبل شكاً أو تأويلاً، وإيماناً لا يناقضه عقل أو علم أو وقائع ملموسة، بأنّه المخلّص والمنقذ الوحيد لأمّته، ولكنه كي يتمكّن من تنفيذ رسالته التخليصية، لا بد له من ممارسة بعض البراغماتية وتقديم بعض التضحيات، للوصول إلى السلطة والتغلغل فيها والتحكّم بمفاصلها، حتّى يتمكّن حينها من بدء عمليّته الإصلاحيّة الموهومة.

وبالنسبة له، الخلاص بحاجة إلى معموديّة، أياً تكن هذه المعمودية، من إقفال الصحف (كانت تصدر منقوشة على جلود العجول)، إلى تأديبها، إلى تعيين المقربين في كافة الأجهزة، إلى التعامل مع العدو، إلى التحالف مع المحتل وسلطة الوصاية، إلى قصف المدارس ودور السينما (بالمنجنيق)، إلى المساكنة مع الفاسدين بنظره، إلى سجن المعارضين، إلى التهكّم على الشهداء، إلى العبث بالعقول، إلى إستخدام أدبيات نافرة، إلى محاربة المقامات الدينية، إلى الإستيلاء على التبرعات، إلى سرقة المال العام، إلى خيانة الرفاق، إلى شرذمة المؤسسات، إلى الفاشية، إلى تعطيل مرافق الدولة عن بكرة أبيها، إلى نسف النظام الديموقراطي، وإلى ما شاء الله من الموبقات إلى أن يصل مجنون العظمة إلى السلطة ويبدأ مسيرة الخلاص، وإن لزم لذلك الهدف السامي التحالف مع القوى الظلامية، فليكن! فمشروع الطرفين مشترك في مرحلته الأولى، أي هدم الشرعية، ثم يفترقان في مشروع ما بعد السقوط، فالمجنون يريد هدم الدولة كي يبني هو الدولة الفاضلة التي يراها ستخلص الأجيال اللاحقة وترفع صوره وتماثيله وتقدسه بعد سنوات طويلة من رحيل جسده، كونه على قناعة بأن روحه ستبقى حارسةً للوطن الأمين الذي سيبنيه بعد تدميره الوطن الأساس، والقوى الظلامية طبعاً من أهدافها هدم الشرعية القائمة وإنحلال الدولة، كي تبني عندها تجمعها القبلي والعشائري وتعيش حياة إنسان الغاب كما تطمح، بعيداً عن أي محيط إجتماعي أو إقليمي أو دولي أو إنساني.

وبعدما استكمل مجنون العظمة نحره للشرعية، وبعدما وضعت قوى الظلام يدها على الأرض بالسلاح، وعلى الشعب بالترهيب والترغيب والتجويع والإذلال، وعلى السلطتين التشريعية والتنفيذية بالسياسة وبالسلاح وبدعم الفساد وبفرط العلاقات الدولية وبتدمير الإقتصاد وبالزعزعة الأمنية وبالتحالف سراً أو علانية مع خصومها المفلسين المتعطشين للمال، حان وقت لقائهما الأخير للإجهاز على ما تبقى من أركان الوطن الأساسية، أي الجيش والقضاء والإقتصاد.

فإنطلقت في آنٍ واحد وبأمر عمليات واحد، أولاً حملة تخوين الجيش وتطويعه وتهديده والتشكيك بولائه الوطني في ظل تعاظم القوة العسكرية للظلاميين، وثانياً حملة تهديد ووعيد وتخوين وتحدٍّ للقضاء بشكلٍ علني بقوة السلاح والهيمنة، وثالثهما حملة على رأس الإقتصاد، أمين الخزانة، التي نهبها المجنون وحلفاؤه الحاليون والسابقون بحماية الظلامي الذي، وإن لم ينهب الخزانة بنفسه، فقد أنهكها بكل ما أوتِيَ له من قوةٍ وإنحطاطٍ وطني وتبعيةٍ لمصالح حلفائه الخارجيين، الذين تخطوا الظلام بظلمات، وكانوا يلقبون بملوك الموت والبراميل.

وكانت الأداة المشتركة والأعظم للفريقين، نسيبٌ لعينٌ خسيسٌ للمجنون، هو وإن كان متعطشاً للمال، معدومَ المبادئ، عنصرياً، تافهاً، كاذباً، مرتشٍياً، مختلساً، فهو أيضاً كان داهيةً وقارئاً ذكياً للمتغيّرات والمؤشرات التي كانت تدل يومها على إنتهاء مسيرته ومسيرة نسيبه المجنون ومسيرة الظلامي، وبالتالي متلهفاً لنتيجة سريعةٍ، إمّا يقوم عبرها بإستباق ما قرأه فيرث حلم المجنون ومسيرته ومنصبه، وإمّا يجمع فيها مالاً وفيراً، أو أقلّه يمنع عن نفسه المساءلة عن المال السابق الذي إختلسه.

ففيما تولّى الظلاميون مهمة الإنقضاض على الجيش، تم تفويض الداهية بأن يضرب جهازين من أجهزة الدولة بحجر واحد، أي القضاء والإقتصاد، فأوعز إلى قاضيةٍ متمرّدة على الحق وعلى الشرعية وعلى الحيادية وعلى الإستقلال وعلى السلطة التراتبيّة وعلى مصلحة الوطن وعلى هيبة القضاء وتجرّده، أن تطلق حملة مسعورة، تحت ستار الشرعية القضائية، على الشرعية الإقتصادية إنفاذاً للتكليف الشرعي، تحقيقاً لأربعة أهداف، أولها طبعاً كسر عمود أساس للدولة كما أسلفنا، وثانيها تسليفاً لخدمةٍ عظيمة لقوى الظلام لن تنساها له أبداً وهي التي كان مشهوداً لها بوعدها الصادق وبحماية حلفائها ظالمين كانوا أم فاسدين، وثالثها لفرض توازن قوى بعيد المنال بين الداهية وبين القوى العظمى والأممية الراعية لأمين الخزانة لكونه من الضمانات على عدم وصول الأموال إلى أيدي الظلاميين، ورابعها في محاولة إضعاف ورقته كمرشحٍ دائم للسلطة، لما يتمتع به من ثقة محليّة ودولية وإحترام، لا يمكن لمجنون العظمة موازاتها، ولما يتمتّع به من صلابة في سياسته منع المال عن الظلاميين مهما إشتدّ بطشهم.

وفي مهزلةٍ أسطوريّة، بدأت الشرعية نفسها، بتكليف شرعي، تسطو على آخر معاقل الشرعية وتنهكها من الداخل كالسرطان المتفشي، وبدأ العد العكسي الأخير للسقوط النهائي لدولة سيبيريا أو لإنتفاضتها الأبدية بوجه الظلام والجنون، وبوجه الإستعانة برموز الشرعية للقيام بأعمال الميليشيات، وهنا كانت الطامة الكبرى، فعندما يكون عدوّك ميليشيوياً تلجأ إلى القضاء، ولكن لمن تلجأ إذا صار القاضي هو الميليشيا وهو الخصم وهو الحكم وهو أداة المجنون وداهيته؟!



ملاحظة: «إنّ هذه القصة مأخوذة من كتاب كليلة ودمنة للأديب عبدالله بن المقفع».

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

17 شباط 2022 09:28