زياد سامي عيتاني*
قبل العام 1975، تاريخ إندلاع الحرب المشؤومة، كان كلّ من يمرّ بمنطقة عين المريسة، حيث أغلب فنادق ومسابح بيروت الفاخرة والراقية، تستوقفه تلك الصالة الزجاجية الضخمة المطلّة على البحر، التي يتمّ الدخول إليها عبر حديقة تفصل بينها وبين الرصيف، فتبهره هندستها الفريدة والغريبة عن المألوف في حينه...
إنه "بيت المحترف اللبناني"، الذي كان يجمع لمسات مضيئة لأعمال صناعيّة يدويّة مدهشة، خرجت إلى النور والحياة، بفضل التصميم والإرادة وحبّ الإبداع، جبلت بعرق جبين الحرفيين، فتتجسّد فيه روح الشرق، وعبق القرية، وأصالة ووهج الريف، الذي ينشر حروف الإبداعات على مساحة الوطن كلّه، وكأنّها تعرض نفسها معتدّة بجمالها الباهر الساحر بجانب شاطئ بيروت، العاصمة الحاضنة لكلّ إبداعات أبناء الوطن ونتاجاتهم، فتبحر بها إلى العالمية، من خلال السيّاح العرب والأجانب الذين يقصدونه لشراء الهدايا التذكارية التي تعبق برائحة التراث اللبناني...
**
فقد تأسّس "بيت المحترف اللبناني" عام 1963، بهدف تطوير المهن والمحافظة على الحِرَف التقليديّة وتسويقها لبنانياً وعالميا، للحفاظ على الروح الجوهريّة للتراث اللبناني، ولتوفير منصة للحرفيين الموهوبين لعرض براعتهم اليدويّة على العالم.
ووضعت خطة عمل، وبرنامج مدروس من قبل المسؤولين والمعنيين لتحقيق الأهداف المرجوة من هذا المشروع القيّم، الذي يرمي إلى التركيز على السلع المشغولة حرفياً ويدويّاً، من قبل معلمي "الصنعة" المهرة، بهدف مساعدة الحرفيين في تصريف منتوجاتهم وأشغالهم وتسويقها، إضافة إلى المحافظة على الحِرَف التقليديّة التراثية المعروفة في كلّ القرى والأرياف.
ومن أجل إضفاء طابع الإلهام اللبناني على المبنى، صمّم على شكل صندوق زجاجي على شكل حرف T يضمن أقصى قدر من الشفافية من جميع الجوانب، ودعّم السقف المسطح بأعمدة صُنعت كلّ نقطة داعمة من أربعة أعمدة فولاذية مربعة تنتشر قُطريا لتلتقي بنظيراتها.
وجاء التصميم مفارقة امتثالاً للرغبة في الحصول على مبنى "لبناني"، مع السماح بأقصى قدر من الشفافية والخفة وتعدّد استخدامات مساحة العرض، كلّ صفات الحداثة.
**
وتحوّلت تلك الصالة الزجاجية مركزاً يختصر بمعروضاته الإنتاج التراثي لكلّ منطقة لبنانية، حيث أن الرحلة السريعة في أرجائه تجعلك تشعر وكأنك في وطن صغير، هو النموذج للوطن الكبير...
فالزائر الأجنبي إلى "بيت المحترف اللبناني" كان يجد نفسه ضيفاً عزيزاً مكرّماً، وكأنّه في بيت من البيوت اللبنانية، حيث البساطة في الاستقبال والترحاب من قبل القيّمين، والتجوال في أرجائه يجذبه إلى "الستاندات" الممتلئة بالسلع والأشغال الحرفية واليدويّة؛ من العباءات والشالات والمطرزات الحريريّة الناعمة من الجنوب والشوف وزغرتا وجبيل وبيروت، إلى الزجاج المنفوخ والملون، والمحفور بنقوش تشكّل لوحات ورسومات خلّاقة من حرفيات الصرفند، والنول من ذوق مكايل، وأما الشموع المشغولة، وقطع النحت على الخشب، وأواني المطبخ من سكاكين وملاعق وشُوك فضية ونحاسية فمدينة جزين لها بصماتها الابداعية والتراثية...
**
لكن خلال الحرب الأهلية عام 1975 تمّ حرق "بيت المحترف اللبناني" بعد سرقته، وأعيد افتتاحه وتنشيطه تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية في عام 1993،
بعد أن خسر أكثر من نصف مساحته، فتحوّل قسم من هذا الصرح المهم إلى مطعم والقسم الأخر تحوّل إلى مسبح ومكان للاسترخاء تحت أشعة الشّمس!!!
وفي عام 2007 تولّى مجلس متطوّع غير حكومي إدارته، تحت وصاية وزارة الشؤون الاجتماعية، منذ ذلك الحين، حقّق "بيت المحترف" إعترافاً محلياً ودولياً لدوره في الحفاظ على صناعة الحِرَف اليدويّة اللبنانيّة وتطويرها مع تكييفها ومتطلبات القرن الحادي والعشرين، إذ يسمح لأكثر من 500 حرفيٍّ متخصّص من مختلف القرى والبلدات اللبنانية بعرض نتاجاتهم الرائعة...
**
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.