يارا ابي عقل - المركزية
المركزية - فيروز، ماجدة الرومي، سلوى القطريب، روميو لحود، زكي ناصيف، وحتى وردة الجزائرية... جميعهم كانوا (بفنهم الخالد) على الموعد مع جمهورهم الوفي في بيت الدين في عطلة نهاية الأسبوع الفائت. كيف؟ كلمة السر بسيطة: الموسيقي العالمي غي مانوكيان عاد إلى بيت الدين لليلتين متتاليتين "من ليالي العمر"، ارتأى منظمو المهرجان أن يضفوا عليهما نكهة اسبانية سريعة لا تلغي طابعهما اللبناني أولا وأخيرا.
في الشكل، اختارت اللجنة المنظمة للمهرجانات برئاسة السيدة نورا جنبلاط وجها لبنانيا شابا بلغت موهبته أكبر وأهم مسارح العالم ليطفئ الشمعة الـ 40 لواحد من أقدم المهرجانات الصيفية الفنية في لبنان، مع العلم المسبق بأن الوقوف على مسرح بيت الدين امتياز فني لا يمنح إلا لمستحقيه من أصحاب البصمات الابداعية في مجال الفن وعالم الاستعراض.
غير أن ما نحن في صدده في هذه العجالة يتجاوز كل هذه الاعتبارات الشكلية بأشواط. فالأهم يكمن بالتأكيد في مكان آخر. إنه يكمن في أن حفل غي مانوكيان في بيت الدين لم يكن مجرد تنفيذ لبرنامج موسيقي غني يرضي مختلف الأذواق والأعمار، غناء وعزفا. بل إن ما شهده آلاف المتفرجين على المدرج المستحدث عند مدخل المقر الرئاسي الصيفي في قلب الشوف، كان جرعة فرح مدنا بها غي مانوكيان وفرقته الموسيقية (المؤلفة بدورها من عازفين ومغنين شباب يقفون جنبا إلى جنب مع أولئك المخضرمين، بينهم "جورج" عازف الطبل الذي تناسى عقود حياته السبعة ليتنقل بخفة بين الجمهور مع الطبل ويزيد على الحماس حماسا) متسلحا بأفضل ما يجيده الشعب اللبناني على أكمل وجه: الفرح والفن والحياة... خصوصا عندما تكون أيامنا ماضية برتابة في زمن الموت البطيء الذي يدفعنا إليه من اعتبرناهم يوما "مسؤولين" ومؤتمنين على حياتنا.
ففي وقت تمضي البلاد بخطى متسارعة نحو مجهول الانهيار المتسارع والفشل المتمادي والعجز المعيب عن انتاج حلول أولها انتخاب رئيس الجمهورية العتيد، وجد الناس في حفل غي مانوكيان في بيت الدين بعضا مما ينقصهم كثيرا في بلاد لا تتقن شيئا بقدر نحر ناسها ودفعهم إلى اليأس... في حفل غي مانوكيان، وجدنا مساحة فرح وفن ورقص بدت بمثابة جرعة أوكسيجين تبدو أكثر من ضرورية في بلد تخنقه الأزمات وتنهشه نيران الفشل والعجز...
على مدى ساعتين من الوقت تقريبا، تناسينا أننا في لبنان، حيث الرئيس الغائب والفراغ القاتل والجوع الكافر والدمار النفسي والسياسي الشامل، والسلاح الفالت... انتقلنا على متن موسيقى غي مانوكيان وطاقته الايجابية المعدية وتفاعله الرائع إلى عالم آخر، عالم غنائي راقص لا يعرف إلى التعب سبيلا. قد يجد البعض في هذا التوصيف مبالغة. غير أن عودة سريعة إلى الصور والفيديوهات التي التقطت وسجلت خلال الحفلين (اللذين أحياهما مانوكيان يومي السبت والأحد) كفيلة بوضع النقاط على الحروف: الأكف تلتهب تصفيقا وحماسا، والحناجر ترافق الموسيقى غناء والأجسام ترقص وتتمايل طربا.. ومانوكيان من على "عرشه" الموسيقي الأهم، آلة البيانو، يتفرج ويمضي في إشعال الأجواء.... إلى حد أن يتيح للناس الغناء بدلا عن أعضاء الكورال، خصوصا عندما يصل قطار الأمسية إلى أغنيات حفرت عميقا في الذاكرة مثل "قمرة يا قمرة"، وهي أول أغنية فيروزية يتعلمها الأطفال في وطن الأخوين الرحباني، أو عندما يطل طيف زكي ناصيف مبشرا بأن "راجع يتعمر لبنان".
لكن كل هذا في مكان.. وأغنية "بحبك يا لبنان" في مكان آخر. صحيح أن كثيرا من القصص حيكت حول هذه الأغنية- الأنشودة بصوت السيدة فيروز، بينها أن دموع المغتربين تنهمر فور سماعها في أي بقعة من العالم. لكن حفل غي مانوكيان في بيت الدين أظهر أن للأغنية المفعول نفسه حتى في ربوع الوطن الأم. ذلك أن ما إن بدأ الموسيقي العالمي عزف هذه "الرائعة" على البيانو حتى تفاعل الناس غناء. لكن أصواتهم لم تنجح في إخفاء الحسرة التي تعتمل في القلب والعقل اللبناني الشعبي: "بحبك يا لبنان" لكنك أيها اللبنان لا تستحق ما يفعله بك وبشعبك قادتك السياسيون". لبنان الذي نريد هو بالتأكيد ذاك الذي عزفه غي مانوكيان على أوتار أمسيته في بيت الدين، وهو الذي يجول به على أكبر مسارح العالم وأهمها، دار الأوبرا في باريس وصولا إلى لوس أنجلوس مرورا بلندن والامارات العربية المتحدة على سبيل المثال... ومن الآن حتى يبصر هذا اللبنان النور، سيتعين علينا أن نكتفي بموسيقى غي مانوكيان وحفلاته في بين الدين وسواها من محطات الفرح اللبناني...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.