كأن الفساد بمراتبه وأشكاله ينافس السرطان في تفشيه اليوم في العالم. كلاهما حتى الآن يستعصي على المعالجة. فالفساد الفكري والمذهبي والسياسي والمالي ينهش الدولة والمؤسسات والأفراد من رأس الهيكل إلى أدناه. من سورية الأسد إلى فنزويلا إلى الجزائر فإيران فإسرائيل فبريطانيا فالسودان... فلبنان. كأن العالم لم يعد لديه قواسم مشتركة أو تماثلات سوى هذه الآفة...
فالفساد هو الذي استدعى كل ضروب الاحتجاجات والانتفاضات التي بدأت في ثورة الأرز تبرماً من الوصاية السورية وفرض وصايتها على البلد وقمعها وهيمنتها على مختلف مؤسسات الدولة والتلاعب بمصائر الشعب ونهب خيراته والعبث بكيانه وحدوده وتقاليده الديموقراطية ومنحاه التنويري. وقد أمعنت الوصاية السورية في هذا التوجه خصوصاً عندما اعتمدت أسلوب الاغتيالات والنفي وإلغاء الحياة السياسية حتى ضاق الناس ذرعاً من هؤلاء البرابرة الفاسدين ليكون اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري نافذةً لثورة الأرز التي نهضت بتظاهراتها المليونية لتسقط هذا النظام الأسود وتطرد جيشه من لبنان.
هذا الفساد بعينه مارسته الأوليغارشية الأسدية على شعبها فتحكمت أقلية عائلية مذهبية طاغية بمفاصل الأمن والاقتصاد وضربت كل القوى السياسية حتى تمكنت من كل شيء، بالقمع والسجن والقتل. وهذا بالذات وعلى غرار ثورة الأرز استنهض الشعب السوري في درعا لتنطلق شرارة ربيعه...
وفي إيران أدى تزوير الانتخابات الرئاسية ليفوز زوراً أحمدي نجاد إلى ثورة الشعب الإيراني الذي واجه قمعاً وحشياً لا مثيل له. واستمر فساد الملالي وأذرعها الأمنية والعسكرية: الحرس الثوري وفيلق القدس. بطرق مطّردة. وها هو الشعب يتحرك لإزاحة هذا الكابوس عنه وقوبل باتهامات الإرهاب والخيانة... وها هي إيران تحصد ما زرعته من فسادها بانهيار اقتصادها منزوعة الثقة بناسها حتى أصبحت في أوضاعٍ يُرثى لها.
أما في لبنان فقد تراكم الفساد السياسي والمالي والوطني والأخلاقي على امتداد نحو نصف قرن من زمن ميليشيات الحرب 1975، وفي زمن الاحتلالات والوصايات وصولاً إلى آخر العنقود وهو "حزب الله": تدمير الشرعية والدولة والكيان والأواصر العربية والإنخراط في الحروب الخارجية من سورية إلى العراق إلى اليمن خدمةً لإيران مما أدى إلى جعل لبنان مكاناً موبوءاً يعزف العالم عن زيارته. فالحزب وأعوانه وميليشاته وسراياه كأنما تمكن من السيطرة على مفاصل مهمة من البلاد من القضاء إلى المطار إلى الميناء فالمؤسسات الأخرى حتى المتاجرة بالمخدرات وحماية القتلة وتعزيز كانتونه كمقدمة لتفكيك لبنان. وكأنما توّج الحزب فساداً مستشرياً تكدس من نصف قرن وكان لؤلؤته المزيفة.
اليوم ومن خلال أعراض أزمات اقتصادية خطرة ومصيرية ترتفع الأصوات لمكافحة الفساد. والغريب الطريف أن الحزب وأطرافاً أخرى فاسدة حملت مشاعل فضح الفساد وجلُّهم من حلفائه الذين أعمتهم شهوة الإثراء والسلطة. والأطرف أن إعلام الحزب يتصدر حملة مكافحة الفساد. لكن من قال إن الفساد انحصر به. الطاقم السياسي التقليدي كأنه في معظمه ملوّث بهذا الوباء. إذاً ماذا؟ هل يمكن على الأقل قص بعض أجنحة الفساد ليستعيد العالم ومؤتمر "سيدر" الذي يُطالب بإصلاحات جذرية للاقتصاد، كشرطٍ من شروط المساعدة وإنقاذ الوضع المالي في لبنان.
الحملة تبدو برغم كل شيء قد انطلقت كاسرةً بعض الخطوط الحمر، وها هي تتمظهر على صعيد الفساد الاقتصادي والأمني والخدمات (الكهرباء، الموازنة) ونستشعر بأنها بإصرار بعض الوطنيين ونظيفي الأكفّ والفكر ستحقق ما لم يتحقق في الماضي مع حكومة الرئيس الحريري ومُساندة الناس له...
وأخيراً نستبشر خيراً وخيراً وفيراً... ولكن.. !
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.