محمد الجوزو (*)
كثر الحديث مؤخراً عن المجلس الاقتصادي الاجتماعي ودوره الوطني، كمجلس أناط به القانون 389 " تأمين مشاركة القطاعات الاقتصادية والإجتماعية والمهنية الرأي والمشورة في صياغة السياسة الاقتصادية والإجتماعية للدولة"، من خلال " تنمية الحوار والتعاون والتنسيق بين مختلف القطاعات الاقتصادية والإجتماعية والمهنية"، وفقا للمادة الثانية من قانون إنشائه.
لقد تمكن المجلس الاقتصادي الاجتماعي خلال ولايته الثانية التي بدأت بـ 30 /11/ 2017 من تحويل مقره ولجانه إلى ورشة عمل متواصلة ومساحة حقيقية للتفاعل والحوار الإيجابي بين مختلف مكونات الشعب اللبناني أكانت ممثلة في مجلس النواب اللبناني أو غير ممثلة، وأنتجت لجان المجلس عدد كبير من الدراسات الجدية والتي نوقشت بعمق بين سائر الأعضاء وأقرت كوثائق علمية استند عليها البيان الوزاري لحكومة "الى العمل" في بعض مفاصله.
ورغم إقتصار عدد الطلبات التي أحالها رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري الى المجلس لإبداء الرأي على طلبين فقط إلا أن المجلس قد خاض في مختلف القضايا الاقتصادية الاجتماعية وكانت الملفات الصحية والبيئية والتربوية موضع عناية اللجان والهيئة العامة.
لقد وفر المجلس مساحة رحبة ومنبر ديمقراطي لكل الكتل النيابية كي تعرض برامجها ورؤياها أمام الهيئة العامة وقد أجريت نقاشات مباشرة بين هذه الكتل وممثلين عن قطاعات عمالية أو مهنية ما مانت لتحصل لو لم يكن المجلس يقوم بدوره الديمقراطي.
لقد أثمرت جهود المجلس ومختلف الفاعليات التي بادر لإطلاقها مناخا من التفكير الإيجابي، وأكدت التجربة المتواضعة أن الحوار الوطني الهادئ هو أكثر ما يحتاجه لبنان في الظروف الإستثنائية التي نمر بها.
هذا المناخ الإيجابي مكن "المجلس" من توفير مناخ ملائم للأحزاب اللبنانية الفاعلة، فنجح في إطلاق مبادرة حوارية بينهم أنتجت أمين إثنين:
- تقريب المسافات وملأ مساحة الفراغ السلبية بحوار إيجابي له أثر وطني كبير.
- ورقة هامة عالجت شؤونا إقتصادية وإجتماعية من شأنها التأسيس لمزيد من نقاط التلاقي.
وعلى الرغم من الحجم التمثيلي الوطني لكل من الأطر العمالية الممثلة بالمجلس وللهيئات الإقتصادية على حد سواء، إلا أن المجلس من خلال نهجه الحواري تمكن من توظيف طاقات الطرفين ورؤياهما في إطار المصلحة الوطنية.
هذا التفاعل لم يرق الى مستوى أن يقتنع كل من الجهتين أن المشاركة بالمجلس أمر يقتضي التسليم بفاعليته وبوجوب الإقتناع بدوره الرؤيوي الوطني، لا أن يبقيا على حوارهما أو صراعهما خارج المجلس، كما لو أن حضورهما في المجلس أمر شكلي ليس إلا!!
إن القوى الحية في البلدان التي تواجه تحديات قومية وتمر بأزمات كبيرة ومصيرية تسارع إلى الإلتفاف حول المصالح العليا للبلاد ويتوحد الرأي العام في أولويات وطنية خارجة كليا عن الأولويات الفئوية لكل جهة أو حزب أو طبقة، وهذا هو حال وطننا لبنان اليوم فهو يواجه تحديات سياسية وإقتصادية ومالية كبيرة جدا ومستقبل لبنان ودوره يتحدد وفقا للكيفية التي سيتعامل مع هذه التحديات.
لا شك أن المجلس النيابي هو السلطة التشريعية وتحت قبته تتم مناقشة القضايا وإقرار القوانين بمشاركة السلطة التنفيذية، وما يميز المجلس الاقتصادي الاجتماعي أنه الإطار الأوسع تمثيلا إذا جاز التعبير، فهو يضم ممثلين عن هيئات عمالية وقطاعية وإقتصادية ليس بالضرورة أن تكون ممثلة في مجلس النواب أو في الحكومة.
من هنا تكمن أهمية "المجلس" وضرورته ومن هنا أيضا تزداد قيمته الميثاقية بمعناها الأوسع، ولا يصح والحال هذه أن نعود إلى الوراء لنرمم هيئات وقديمة أو مجالس رديفة سابقة لقيام المجلس بموجب وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) في العام 1989، بل المطلوب تعاون الجميع وتطوير تجربة المجلس وتعزيزها.
ومن هنا، أيضا تصبح الدعوة إلى تمكين "المجلس" وصونه كتجربة رؤيويه رائدة أثبتت نجاحها في مدة وجيزة، أكثر من ضرورة وطنية.
إن مسؤولية القوى الممثلة في السلطتين التنفيذية والتشريعية تتحمل مسؤولية خلق مناخ الحاضن للحوارات العاقلة والهادئة ضمن الأطر الدستورية، بدلا من ترك المجال أمام تبادل الإتهامات والشجارات التي لا تزيد في خناق البلاد.
ربما كان البعض يتقصد "حوارات الشوارع بلغة الشوراع" بهدف شد العصب الحزبي أو المذهبي، وذلك لا يكون إلا على حساب الدولة المركزية، فبقدر متى تضعف الدولة الوطنية تقوى دويلات الطوائف وبقدر ما تقوى الدولة الوطنية تضعف دويلات الطوائف، فهل أدركنا جمعيا خطورة البقاء في دائر الدويلات؟
لا شك حظي المجلس الحالي بتوافق واسع غير مسبوق ادى الى اطلاقه في مرحلة اقتصادية صعبة يتوجب عليها نقل الحوار الاقتصادي الاجتماعي من الشارع الى المجلس لحوار عقلاني يجمع المكونات الثلاث اصحاب العمل والعمال والدولة.
المجلس الاقتصادي الاجتماعي مساحة حوار لا شجار، وعلى الجميع إحترام هذا الدور الميثاقي إذا كانوا فعلا يحترمون الدستور ويسعون إلى تطبيقه وقيام دولة المواطنة والقانو، لا بل أكثر من ذلك على الجميع إزالة كل المعوقات من أمام المجلس ليتمكن من القيام بواجبه الدستوري على أكمل وجه.
الرهان الكبير هنا على قناعة رئيس مجلس الوزراء بأهمية المجلس فيحيل ما يفترض إحالته ضرورة، لا سيما ونحن أمام مرحلة عمل كبيرة تحتاج إلى توافق وطني لا توافق طائفي وهذه لا يجسدها إلا مجلس تتمثل فيه الفئات الاجتماعية خارج القيد الطائفي!!
(*)عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.