لم يخرج يوم 23 يوليو تموز، من الذاكرة الشعبية العربية. مرور 58 عاما عليه ورغم كل العواصف الرملية التي غطت مساحات شاسعة كانت مضيئة بالنضالات، وخضراء مليئة بالأمل، وغنية بطموحات تريد تغيير الانسان العربي. لم تنجح كلها في جعل الثورة في مصر نسياً منسياً، كما حصل مع ثورة 14 تموز في العراق. ما زالت الشعوب العربية اليوم أكثر من أي يوم مضى تفتقد مصر ودورها خصوصاً عندما تعصف بها الأحداث والمسارات الخاطئة المليئة بالخطايا. جمال عبد الناصر لن يعود، ولا قراراته ستحضر لتغير مجرى الأحداث وتغلب التطورات. لكن مصر باقية والأمل بأن تكون صانعة للمسارات في العوالم العربية والافريقية والاسلامية، الى جانب حضورها الدولي المؤثر يبقى حياً وكبيراً.
كل شيء تغيّر، ليست مصر وحدها. العالم كله تغيّر. كان عوالم عديدة، فأصبح قرية كبيرة في زمن العولمة. حيث لا أسرار ولا خفايا. كل العالم يعرف ماذا يحدث في أعمق أعماق العالم في الوقت نفسه. أما العالم العربي، الذي كانت شعوب كاملة تأمل أن يتحول عالماً مفتوحاً بعضه على بعض، لا حدود فيه. ولا جوازات وتأشيرات ولا عقد، أصبح اليوم أكثر من عوالم لا يعرف فيه الأخ أخاه، واذا عرفه لا يتعرف عليه. كانت الطموحات كبيرة جداً، بينما أصبحت أقصى أماني أي عربي من المحيط الى الخليج، أن لا يجتاحه تسونامي الحروب الأهلية أو الفتنة المذهبية. وأن لا تشهد بلاده العشرية السوداء أو ما يشبهها كما عاشتها الجزائر. وأن لا تقع عنده السودنة التي عصفت بالسودان وتهدده حالياً بالتقسيم بين شمال وجنوب وربما أكثر لتلغيه، بعد أن كان الأمل بأن يكون سلة الغذاء للشرق الأوسط، ولا أن يعيش على وقع الصوملة حيث الشباب يتقاسمون باسم الاسلام الشوارع الصغيرة التي تضم بقايا الجائعين والخائفين من الصوماليين وأن لا تقع حرب جديدة في اليمن بين الحوثيين وصنعاء، أو بين صنعاء وعدن ويصبح اليمن السعيد في خبر كان، وأن لا ينزلق نحو العرقنة التي وضعت العراق تحت السكين وما زالت حتى الآن تهدده، محوّلة بلد ذهب النفط وذهب الماء الى بلد منهوب يتمنى ساسته أن يصبح كل واحد منهم صدام حسين صغير يحكم ما تبقى منه تحت أعين وسلطة القوى الاقليمية والدولية، وان لا يكون على مثال لبنان واللبننة التي جعلت من نظامه نظاماً استثنائياً حتى جاء العراق وتلبنن، كل عدة سنوات بحاجة الى مؤتمر اقليمي، واعادة نشر لمظلة سياسية اقليمية ودولية حتى لا يلغى من الخريطة. قدر لبنان أن له وظيفة هي الجسر الذي لا يريد أحد أن يستغني عنه لأنه آجلاً أو عاجلاً سيضطر لعبوره بسبب المتغيرات. وأخيراً وليس آخراً أن لا يقع في الاتون الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني، الذي لا يكفيه الاحتلال الاستيطاني الاسرائيلي، فوقع بين فكّي كماشة العجز من جهة، والانفصال باسم اقامة امارة اسلامية في غزة ستبقى مهما تطورت امارة محاصرة تعمق القبر الذي يراد للقضية الفلسطينية ان تدفن فيه بدلاً من ان تكون قاعدة يمكن ان يجري التأسيس عليها لقيامة فلسطين. تبقى مصر، المحاصرة اليوم في الدوائر الأربع التي صنعت موقعها ودورها، هذه الدوائر هي: الداخلية والعربية والافريقية والدولية.
[ الدائرة الداخلية: من الصعب جداً الدخول في تفاصيل هذه الدائرة، لان الكثير منها يقوم على افتراضات وتكهنات، لكن لا يمنع ذلك من القول باختصار مفيد، ان مصر معلقة على احتمالات واقاويل حول من يرث من، وهو أمر مقلق جداً للمصريين وللعرب وللعالم. من حق مصر والعالم معها ان تبقى مستقرة اولاً ومفتوحة على مستقبل واعد سياسياً واقتصادياً. يجب ان يطمئن الجميع الى ان مصر مهما جنحت نحو بناء مجتمع متدين، لن تنزلق نحو نظام اسلامي يخرجها من موقعها ودورها، ويفتح الابواب فيها نحو صراعات داخلية يمكن لأي غادر بأن يغرقها في حرب ناعمة تفككها وتجعلها بحاجة الى رعاية خارجية بدلاً من ان تكون هي الراعية للآخرين. كما لا يجوز ان تبقى مصر فريسة بين ايدي القطط السمان وأخواتها، وأن يبقى الخيار الديموقراطي حلماً وطموحاً لعقود طويلة وعديدة، بدلاً من أن يصنع حاضرها مستقبلاً زاهراً لها، ومثالاً للآخرين، وأخيراً أن تكون المؤسسة العسكرية الحاضنة والحامية لمصر الشعب كما كانت دائماً.
[ الدائرة العربية: منذ خروج مصر من الصراع العربي الاسرائيلي، خسرت دوراً وموقعاً ولم تربح سوى سلام بارد. دعوة مصر الى كسر هذا السلام البارد ليس الغاية اليوم وخصوصاً ان الجميع يريد الدخول في مسارات سلمية غامضة، لكن المطلوب ان تصنع مصر دوراً لها تستطيع من خلاله ان تكون حاضرة وفاعلة ومؤثرة في قضايا هذه الأمة. المهم وضع استراتيجية واضحة وخريطة طريق مفصلة كما فعلت دول صغيرة فأخذت ادواراً بحجم دول كبرى. مصر صاحبة الدور، استثمار داخلي ايضاً وخارجي امام العالم. تركيا اليوم تعمل كل ما لديها للدخول الى العوالم العربية لأنها بذلك تكون قوية في مواجهة العالم. الدور اليوم استثمار قوي وليس مجرد وجاهة سياسية.
[ الدائرة الافريقية: غياب مصر عن افريقيا حاصرها في اعز ما تملكه. اليوم مصر مهددة في شريان حياتها النيل. لو كانت مصر حاضرة وقوية لما اقدمت دول حوض النيل على عقد مؤتمر وهي غائبة عنه ولما وقعت اتفاقيات وتوقيع مصر مغيب. عودة مصر الى افريقيا، الى قضاياها فعلياً وليس فلكلورياً على مثال ملك الملوك معمر القذافي، يشكل ضماناً لأمنها القومي والاستراتيجي.
[ الدائرة الدولية: مصر محترمة في هذه الدائرة لكنها غير فاعلة منذ سنوات. الجميع ينتظر ان يكون لمصر دور في هذه الدائرة، لكن مصر المحاصرة عربياً وافريقياً لن يكون لها هذا الدور الغني والمؤثر. لو كانت مصر قوية كما في الماضي، لما نافسها أحد على مقعد تستحقه في مجلس الأمن.
يمكن الدخول في كل دائرة في تفاصيل. والكثير منها من نوع رش الملح على الجرح. طموح العرب الذين يريدون ان يخرجوا من عوالم الظلام التي تتحكم بهم حاضراً ومستقبلاً، وان يستعيدوا آمالهم وطموحاتهم بغد مشرق، وأن تعود مصر الى أدوارها الطبيعية في الدوائر الأربع.
رجعي يا مصر.. ترجع الأيام.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.