يوجد تغيير في المشهد السياسي العربي. لم يكتمل هذا التغيير. الكثير من خطوطه وألوانه لم تتحدد ولم تتبلور بعد. المهم، ان المسار بدأ بقوة واندفاع واضحين. يكفي مشهد قمة بيروت للتأكد من ذلك. هذه القمة استثنائية في شكلها ومحتواها. الشراكة العلنية السعودية - السورية، تضيء بقوة على وجهة هذا التغيير.
ليس مطلوباً فك التحالفات القديمة فوراً للدخول في هذا المسار، التغيير متى بدأ له مفاعيله المتدرجة. مدى استيعاب أو رفض الأطراف المختلفة للوضع هو الذي يحدد النتائج على المدى المنظور. دوائر ثلاث ستكون في الأسابيع القليلة المقبلة موضع متابعة وملاحقة، لمعرفة حجم مسار التغيير: لبنان وفلسطين والعراق.
الوعي العميق بما يحاك للمنطقة العربية من دسائس ومؤامرات لإرباكها بالفتن الطائفية والمذهبية شكل كما هو واضح المحرك الحقيقي لتشكل ووقوع هذا التغيير. لا تكفي الادانة، ولا التحذيرات من خطورة نار الفتنة التي تقترب من برميل البارود. الأهم التحرك لتطويق الفتنة ومحاربتها وحتى وأدها. لبنان كان وما زال الحلقة الضعيفة في كل ذلك. كل مفترق طرق يصل اليه لبنان، يتحول الى حقل مليء بالألغام. اتفاق الدوحة أنقذه، لكن التطورات خصوصاً ما يتعلق بالمحكمة الدولية، عادت ووضعته فوق الصفيح الساخن جداً.
معادلة س س، أي السعودية زائد سوريا تبدو هي الأنجع. القمة التي انعقدت في قصر بعبدا التي حضرها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، والرئيس السوري بشار الأسد، أعادت عملياً الحياة الى اتفاق الدوحة وثبتته. العاهل السعودي كما أكد في جولته العربية، أراد التأكيد بأن المملكة تشكل الرافعة للموقف العربي، والرئيس السوري في زيارته لبعبدا ومشاركته الفاعلة في القمة أكد أيضاً على أن مرحلة 2005 وما تبعها قد انتهت، وان مرحلة جديدة قد بدأت، عنوانها الارتقاء بالعلاقات الى ما يطمح به الشعب السوري واللبناني. مرة أخرى ومن قصر بعبدا، أعاد الرئيس الأسد التأكيد على المعادلة الدائمة وهي شعب واحد في دولتين. من الطبيعي أن تحترم كل واحدة منهما سيادة واستقلال الأخرى في اطار من العلاقات المميزة والخاصة جداً.
شبكة الأمان السياسية، التي حاكتها قمة بيروت مهمة جداً، تضع التوتر المتصاعد تحت سقف يضبطه. من المهم جداً أن تتوقف محدلة الاتهامات والتهديدات والتحذيرات وما لفّها، مجرد حصول هذا التوقف يهدئ الجو ويخفف من حجم الخوف القاتل لدى اللبنانيين من الحربين الأهلية والخارجية. الجميع يعلم ان حرباً واحدة تكفي حالياً لإلحاق العطب بلبنان واللبنانيين، فيكف بحربين تكمل كل واحدة منها الأخرى. هذه التهدئة لا تكفي يجب تفعيلها بحيث تكون الحاضر الوحيد الذي يولد سلاماً أهلياً حقيقياً. الحالة اللبنانية حتى ظهر أمس، كانت مبارزة من نوع الروليت الروسية. قد ينجر اللاعب مرة، لكن في لحظة معينة تنطلق الرصاصة القاتلة النهائية. فهل يوجد طرف مستعد للدخول في هكذا تجربة مهما كانت أسبابها، علماً انه توجد منافذ ومخارج كثيرة لتجنب الوقوع في لعبة الروليت الروسية القاتلة؟!..
فلسطين كانت وما زالت الدائرة المركزية في ملاحقة كل التحولات والتغييرات في المنطقة. قبل اشهر قليلة، اعترضت دمشق على مبدأ المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل. في اجتماع القاهرة، ترك الخيار في البدء للمفاوضات المباشرة مع حكومة بنيامين نتنياهو مفتوحاً أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس. لم يعترض أحد. هذا تأكيد جديد على جدية التغيير. وراء الـنعم التي قالتها جامعة الدول العربية تكمن أكثر من لا. من المهم ملاحظة ان الدول العربية وهي تقبل بأن يذهب الرئيس الفلسطيني إلى المفاوضات المباشرة مع إسرائيل أرادت بهذا الموقف الإيجابي:
[ التجاوب مع طلب الرئيس باراك اوباما، وعدم تركه وحيداً في مواجهة الضغوط المتزايدة للوبي اليهودي في فترة حساسة تتميز بإعداده للاستحقاق الانتخابي النصفي للكونغرس المهم جداً.
[ لم تحدد الدول العربية فترة زمنية للمفاوضات المباشرة كما حصل في المرة الماضية، لكن الجميع بمن فيهم بنيامين نتنياهو يدركون ان المفاوضات لن تكون مفتوحة زمنياً حتى لا تتحول إلى مفاوضات من أجل المفاوضات، وأن الفشل هذه المرة يفتح الباب أمام الذهاب إلى الأمم المتحدة لاعلان الدولة الفلسطينية.
المفاوضات المباشرة قد لا تبدأ فوراً إلا شكلياً، أمامها تعقيدات كثيرة منها انه لم تتم حتى الآن.
[ لم تبلور إسرائيل موقفها من مشاركة الولايات المتحدة الأميركية بشخص جورج ميتشل في المفاوضات في حين ان الفلسطينيين يصرون عليها، والأميركيين يرغبون بالمشاركة فيها.
[ لم يتقرر بعد هل تكون المفاوضات على مستوى طاقم واحد أم عدة طواقم تبعاً للملفات والقضايا المطروحة.
الكرة في ملعب بنيامين نتنياهو. قبول التفاوض المباشر سحب منه الحجة بأن المشكلة في عدم رغبة الفلسطينيين في التفاوض، الخيارات محدودة أمامه، والوقع ليس مفتوحاً له. في هذه الأثناء يمكن متابعة التغيير الذي بدأ على مساحة المنطقة.
العراق هو الدائرة الثالثة. الأزمة السياسية التي طالت، وعمّقت لبننة النظام السياسي، لن تبقى الى ما لا نهاية. نهاية الأزمة بدأت، وحول الجميع قناعات حول مسببات الأزمة تدفع باتجاه صياغة الحل السياسي، الذي لا يمكن أن يتم دون تنازلات قاسية وحقيقية من جميع الأطراف. ايران الطرف الفاعل الكبير في الحالة العراقية، تتجه نحو دعم الحل في معادلة تحافظ على مصالحها ومصالح الآخرين. الأزمة الطويلة أكدت أن ايران طرف قوي جداً في العراق، قادر على وقف كل الحلول التي لا تتناسب مع رؤيته، لكن في الوقت نفسه أثبتت التطورات أن ايران وحدها غير قادرة على الحل، أكثر من ذلك ليست قادرة على مواجهة الآخرين، خصوصاً وأن نار العرقنة خارقة حارقة، تحديداً على الصعيد المذهبي، وما يطبخ لإيران في اطار الحرب الناعمة لاشعال حرب مذهبية عندها حتى ولو كانت محدودة كما حصل على الحدود مع بلوشستان الأفغانية أقلق الايرانيين. ايران تتحرك وهي مدركة جداً لقوة الرياح ووجهتها، وهي لم تلعب يوماً مكشوفة الصدر في مواجهتها.
طهران كما يبدو لمست عنف القرار الغربي في الحرب الاقتصادية ضدها وهي أيضاً تلاحق التغيير الحاصل في المشهد العربي حالياً. طهران تعرف جيداً ان الموقف السوري اليوم في العراق ولبنان أقرب الى موقف السعودية منها. لذلك لا بد ان تأخذ ذلك في حساباتها حتى لا يتحول الاختلاف الى خلاف. ويبدو حالها ان طهران تؤيد المسعى السعودي السوري في لبنان، والكلام الذي أطلقه الرئيس أحمدي نجاد حول الحرب هي من نوع التحذير وليس الترهيب والتهديد. كما ان طهران تتجه حسب كل ما يأتي منها باتجاه تسهيل تشكيل الحكومة العراقية طالما ان مصالحها فيه محفوظة. طهران تعرف جيداً أن الاختلاف مع السعودية يجب أيضاً ألا يصل الى خلاف حقيقي. موقف السعودية في معارضة الحرب ضدها، هو الضمانة الحقيقة لها، لأنه متى قبلت السعودية فتح أجوائها أمام الطيران الأميركي، لا يعود بين القرار واشتعال الحرب سوى كبسة زرّ.
رياح التغيير هبّت... بانتظار مفاعيلها في الخريف القادم.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.