الأميركيون مجمعون على انجاز الانسحاب العسكري القتالي من العراق في نهاية الشهر الحالي. العراقيون منقسمون وموزعون بين مؤيد بقوة للقرار رغم معرفته بالأخطار المقبلة بعد تنفيذه، وبين القلق الشديد من حصول الانسحاب في موعده دون الجراءة للمطالبة بتأجيل القرار، لأنه أساساً يشكل طلباً غير وطني ولأن الادارة الأميركية لا تبدو متحمسة لذلك مهما بلغت الاغراءات. بهذا فإن العراق يخرج مع العام 2011 من تحت الانتداب الأميركي، لكنه فعلياً سيبقى مرتبطاً بقوة بالقرار الأميركي وتحديداً بالاستراتيجية القومية الأميركية لسنوات طويلة. المسألة مرتبطة باستمرار القوات الأميركية كقوات صديقة حسب المتعارف عليه أميركياً وعراقياً.
الرئيس باراك أوباما قال أمام مؤتمر لقدماء المحاربين القدامي في مطلع هذا الشهر: ان المهمة القتالية للولايات المتحدة الأميركية في العراق ستنتهي في آب 2010، وهذا ما تقوم به تماماً. ستبقى قوة قوامها خمسون ألف جندي لتدريب قوات الأمن العراقية على عمليات مكافحة الارهاب وتوفير الأمن للمدنيين. وركز أوباما في الخطاب نفسه على ما أسماه التحول الذي سيغير دور القوات الأميركية من الدول القتالي الى دور استشاري.
الرئيس الأميركي، لم يقل متى سينتهي الدور الاستشاري لقواته في العراق، بمعنى آخر لم يحدد مهلة معينة لانجاز الانسحاب العسكري الأميركي رغم ان الانسحاب يجب أن ينهي عام 2011 من مثل هذه الفترة. البعض في واشنطن يقول انه سيستمر أكثر من ثلاثة عقود وربما خمسة. لماذا العجلة. القوات الأميركية مضى عليها في اليابان أكثر من ستة عقود ولا شيء يؤشر الى انسحابها على الأقل، خلال العقدين القادمين. السؤال ما هو عدد القواعد التي ستبقى فيها.
ما لا تقوله الادارة الأوبامية علناً ورسمياً، تمرره أحياناً في بيانات محدودة التوزيع. موقع Taqrir الأميركي نشر جزءاً من بيان حقائق صادر عن البيت الأبيض يصيغ صورة واضحة جداً عن وضع القوات الأميركية سابقاً وحالياً ولاحقاً. عندما تقلد باراك أوباما السلطة قبل 18 شهراً، كان عدد القوات الأميركية في العراق 144 ألف جندي. في مطلع العام الحالي أي بعد مرور عام على دخوله البيت الأبيض نزل العدد الى 1528 ألف جندي، وفي أيار الماضي وصل العدد الى 88 ألف جندي. في نهاية هذا الشهر يكون قوام الجيش الأميركي خمسين ألف جندي، مهمتهم الرسمية: دعم وتدريب القوات العراقية لمواجهة المخاطر الداخلية ثم الانتقال لاعدادها لحماية الحدود العراقية.
من الضروري لمعرفة تفاصيل الصورة بشكل أدق استناداً الى الأرقام الأميركية: عدد القواعد الأميركية داخل العراق، بلغ خلال الصيف الماضي 357 قاعدة. تشغل حالياً القوات الأميركية 1528 قاعدة، ومن المنتظر أن يصل العدد في نهاية الشهر الحالي الى 94 قاعدة. مشكلة اضافية تواجه القيادة الأميركية الى جانب ضمان أمن واستقرار هذه القواعد، كيفية التعامل مع القطع الحربية الموجودة في العراق. حالياً يصل عدد المعدات الأميركية من كل الأنواع مليون ومائتي ألف قطعة وذلك بعد أن بلغ عددها في مطلع 2009 ثلاثة ملايين واربعمائة ألف قطعة. ما العمل بالمليون ومائتي ألف قطعة، يوجد نقاش حولها، من ذلك نقلها الى أفغانستان أو اعادة توزيعها على المخازن الأميركية مع الأخذ في الاعتبار الفرق بين قيمتها وتكلفة نقلها. أخيراً، وهو الحل الأنسب كما يبدو، تسليمها الى الجيش العراقي من أجل زيادة قدراته وامكاناته. يمكن أيضاً مد القوات الأميركية الموجودة في المنطقة خصوصاً في الكويت بجزء من هذه المعدات حيث يوجد 28 الف جندي مهمتهم دعم الوجود الأميركي في العراق.
لا تبدو مهمة باراك أوباما سهلة في العراق رغم غياب ضغوط أو مطالب من جنرالاته بكل ما يتعلق بالانسحاب، بعكس ما يحصل في أفغانستان، حيث أبلغه الجنرال بترايوس عدم امكانية تنفيذ وعده بالانسحاب في 2011. ما زال أمام الأميركيين كما هو واضح، التزامات تفرض عليهم استمرار الوجود القتالي. الصعوبات في العراق كما يواجهها أوباما تقوم على:
[ اضطراره للتعامل مع ايران بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. على أوباما الأخذ جدياً بالوجود الايراني في العراق. لا يمكن لأي حل أن يمر دون الموافقة الايرانية. استمرار الأزمة يؤكد ذلك، قد لا تكون كل المسؤولية تقع على الجانب الايراني، لأن المشكلة أكثر تعقيداً من حصر مسؤوليتها بطرف واحد، لكن من الواضح ان طهران لاعب كبير وفاعل في العراق. استمرار الفراغ السياسي يربك القرار الأميركي ويعرض الانسحاب الأميركي من العراق للخطر.
[ الادارة الأميركية تريد تشكيل حكومة عراقية بسرعة، خصوصاً وان خمسة أشهر مضت على انتخاب البرلمان الجديد. المشكلة ان الادارة الأميركية واقعة بين السندان السني والمطرقة الشيعية. لا يمكن لأي حل سياسي أن ينضج ويعلن من دون ارضاء المكونات الشيعية من جهة ومن دون دخول السنة الى السلطة بقوة وفاعلية وليس رمزياً. دون ذلك استمرار الأزمة، اذا لم يرضَ الشيعة من جهة، ومن جهة أخرى تم دفع السنة للانزلاق نحو الخلط بين المقاومة والارهاب كما حصل غداة الغزو الأميركي. القاعدة وخصوصاً الزرقاويين يحضرون الميدان لمثل هذه العودة. التصعيد الارهابي مؤخراً يؤكد ذلك. الاحباط يولد الكثير من القرارات الخاطئة. مثل هذه الحالة تغرق العراق في مستنقع العرقنة وفي الوقت نفسه تحشر الأميركيين وتحملهم مسؤوليات اضافية عن الكارثة الكبير الذي صنعوها بأيديهم.
العراقيون منقسمون. القيادة العسكرية ممثلة برئيس الأركان الجنرال بايكر زيباري وهو كردي - برازاني يرى ان الجيش العراقي الذي عديده كما أشار بيان البيت الأبيض قد وصل الى 665 ألف جندي لن يتكامل قبل العام 2020. وزير الدفاع عبد القادر العبيدي يعترف ان المسيرة ما زالت طويلة للوصول الى نسبة 85 بالمئة بعد أن كان الوضع صفراً. أما طارق الهاشمي وان كان يعترف بالأخطار الشديدة لأن الجيش العراقي لا يمتلك تسليحاً كافياً للصنوف القتالية فإنه يرفض التمديد للأميركيين.
لا شك ان أمام العراق والعراقيين فترة عصيبة طويلة، الأخطار الخارجية كثيرة تجد معظمها تزايد الضغوط على مكوناته لامتلاك المزيد من مفاصل القرار الداخلي. أما الأخطار الداخلية فحدث عنها ولا حرج؟ الجميع يتحدث عن وجوب تداول السلطة وعدم اخراج اي طرف منها. لكن بدون استثناء، الجميع يريد أن يحتفظ بالسلطة لنفسه ولفريقه، ويعمل على احراج الطرف الآخر لاخراجه.
أمام هذه المعضلة، لن يكون غريباً ولا مفاجئاً أن يقفز في المستقبل المنظور عسكري بصرف النظر عن رتبته الى السلطة تحت راية انقاذ العراق من الطبقة السياسية العاجزة. المؤكد في مثل هذه الحالة ان الضابط المنفذ سيكون متفقاً عليه من طرف أو أكثر من الأطراف الخارجية. بهذا يمكن القول من دون تردد: عود على بدء!.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.