منوعات

السحور...بركة

تم النشر في 1 أيار 2020 | 00:00

تراث رمضان (7)‏


زياد سامي عيتاني*


الصائمون ما إن يسمعوا نقرة طبلة "المسحراتي" ومناداته لهم: "قوموا على سحوركم إجا رمضان يزوركم"، حتى يستجيبوا لندائه ويستيقظوا من نومهم لتناول وجبة السحور، التي هي عبارة عن "وقعة" من الطعام الخفيف تساعدهم ليوم تالي من الصوم يحبسون فيه شهواتهم ورغابتهم عن الطعام والشراب.

وأكثر ما كان يسر ويفرح لسماع صوت "المسحراتي" هم الأطفال، خصوماً إذا ما سمعوه يناديهم بأسمائهم (بطلب من أهاليهم) لتدريبهم على الصيام، حينما كانت بيروت بمناطقها وأحيائها وحارتها يلتم فيها أهلها وأبناؤها، فينهضون من فراشهم، رغم أن النعاس مخيم عليهم، ويتوزعون مسرورين وفريحين إلى جانب أهاليهم ويشاركونهم سحورهم، وسط حالة من الألفة العائلية، التي هي من ميزات الشهر الكريم...

فالسحور إذن، من العادات والتقاليد الرمضانية التي إعتاد عليها الصائمون، لا سيما وأنها مناسبة وفرصة لإلتئام أفراد العائلة، لذلك ما زالوا حتى يومنا هذا يحرصون عليها طيلة الشهر الفضيل المفعم بالتقوى والإيمان والطاعات والحرص على صلة الرحم...

**



‏‎•معنى السحور:

أصل الكلمة من سَحَر، والسحر هو آخر الليل، ويمسك عن الطعام في وقت السحر، إذا تبين المسلم الفجر الصادق لقول الله تبارك وتعالى:

( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) 

والسحور كمصطلح ما يتسحر به، وهو الأكل والشرب في السحر إستعداداً للصوم، وكذلك السحور هو الأكل قبيل الإمساك.

‏‎وقد حدد المسلمون في عهد النبي فترة السحور، أي جواز الأكل والشرب بآذان بلال، وعرفوا الإمتناع عنهما بآذان أم مكتوم، فالسحور والإمساك هما بين صوتي بلال وإبن أم مكتوم.

‏‎والسحور ورد في الحديث الشريف بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "تسحّروا ولو بجرعة ماء".

‏‎وورد في حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "فعل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور". الفطور والسحور كلمتان تذكران طيلة أيام رمضان المبارك، إذ هما موعد بدء الإفطار والإمساك عن تناول الطعام قبيل صلاة الفجر بعد أن يستيقظ الصائمون في آخر الليل ليسدوا به رمقهم لليوم التالي من صيامهم.

**



•بركة السحور:

‏‎وسبب حصول البركة في السحور، أن هذه الوجبة تقوي الصائم وتنشطه وتهون عليه الصيام، إضافة إلى ما فيه من الأجر والثواب بامتثال هدي رسول الله "صلى الله عليه وسلم".

‏‎ومن المهم تأخير هذه الوجبة قدر الإمكان إلى قبيل أذان الفجر حتى تساعد الجسم والجهاز العصبي على تحمل ساعات الصوم في النهار، كما أن ذلك هو السنة، وقد كان أصحاب النبي "صلى الله عليه وسلم" يؤخرون السحور، كما روى عمرو بن ميمون حيث قال: "كان أصحاب محمد "صلى الله عليه وسلم" "أعجل الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً".

‏‎ومن بركات السحور أن فيه تقويةً على الطاعة، وإعانةً على العبادة، وزيادةً في النشاط والعمل؛ ذلك لأن الجائعَ الظامئَ يعتريه الفتور، ويَدِبُّ إليه الكسل.

**



•سحور المكيين:

‏‎الرحالة العربي الأندلسي ابن جبير الكناني وفي معرض حديثه عن شهر الصيام بمكة المكرمةأشار إلى سحور أهلها مكة، ونقل أيضاً ما كان يؤديه المؤذن الزمزمي من نداءات لتسحير صائمي مكة المكرمة للإمساك عن طعام السحور في صومعته بالحرم الشريف فيصفها بقوله: "والمؤذن الزمزمي يتولّى التسحير في الصومعة "المنارة" التي في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعياً وذكراً ومُحرِّضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عُود كالذراع، وفي طرفيه بَكرتَانِ صغيرتانِ يُرفَع عليهما قنديلانِ من الزجاج كبيران لا يزالانِ يَقِدَانِ مُدّة التسحير". ثم يضيف ابن جبير: "فإذا قرُبَ تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان ـ الأذان ـ بالقطع مرّة بعد مرّة حطّ المؤذن المذكور القنديلينِ من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان، وثوّبَ المؤذنون من كل ناحية بالأذانِ. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممّن يبعد مسكنه من المسجد يُبْصِر القنديلينِ يَقِدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما عَلِمَ أنّ الوقت قد أنقطعَ".

**


وجبة السحور تكون وجبة خفيفة، خالية من المأكولات الدسمة، حتى لا تتسبب في اليوم التالي بالإزعاج والظمأ للصائم.فهي في الغالب تعتمد على الأجبان والألبان مع كوب من الشاي وبضعة قطع من الخيار والبندورة والزيتون البلدي، ومن الممكن أن يتخللها "الخشاف" الذي هو عبارة عن المشمش الجفف المنقوع مع شراب "القمر الدين" وفيه القوبات من لوز وصنوبر وكذلك الزبيب، في حين بعض الصائمين يتعمدون تناول الفول المدمس بزيت الزيتون، بحجة أنه يزودهم بالطاقة لليوم التالي.

‏‎وبعد وقعة السحور يشربون جرعة ماء ويمتنعون بعدها عن تناول أي شيء وينوون الصيام لوجه الله تعالى يوم غد من رمضان إيماناً وإحتساباً مع إطلاق مدفع الإمساك إيذاناً ببدء الصيام، ثم يرفع آذان الفجر فيؤدون صلاتهم إما في المنازل أو في المساجد التي تبقى مضيئة أنوارها ومصابيحها حتى إتمام الصلاة لتطفأ بعدها حتى غروب اليوم التالي.

**




على هذا النهج البديع المحبب يمر شهر رمضان بأيامه ولياليه على طاعة الله ومغفرته، مكرساً الجذور الإيمانية عند الصائمين ومرسخاً أواصر الألفة والمحبة بين الناس على قاعدة الترابط والتواصل الإجتماعي القائمة على الفضيلة والعمل الصالح.




-يتبع: المسحراتي.


‏‎*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.