سمير عطالله - "النهار"
ولد لبنان في ذلك الأول من أيلول، في زمن الحمل الجميل والولادات الصعبة. فرنسا كانت ترى فيه فكرة جميلة من افكارها المدنية، وميناء تجارياً وحضارياً، يستقبل بضائعها ويستقبل كبار مفكريها، من أرنست رينان الى موريس بارس صاحب "دفاتر العاصي".
لم تكن ولادته مجرد فكرة أو خاطرة عابرة، كما صوّرتها الاقلام المتسرعة ولطائف ريمون اده. بل كانت نتاج مراحل كثيرة وحقبات شتى. وعلى خرائط سايكس بيكو اتخذت فرنسا لنفسها جمهورية لبنان، بينما المنطقة كلها ترتسم للمرة الأولى في حدود جديدة: لم تكن اميركا قد اطلت بعد، وروسيا، ذلك الرمز العجيب للاشياء التي تصب عكس الينابيع، تجري عكس الدفق. هكذا لبنان كان عكس بنيه. أو بالأحرى، العكس. انحسرت الى الداخل لتدير احلام لينين بظهور الحزب الواحد للمرة الأولى في التاريخ، والامبراطورية العثمانية تسلِّم ولاياتها كما استعمرتها قبل 500 سنة، بلا مدارس أو طرقات أو مستشفيات، وبالكثير من المشانق والانكشارية والمجاعات.
رأت فرنسا في لبنان نموذج الدولة العلمانية التي تنادي بها، ويقاتل من اجلها مفكروها وكتابها واحزابها وعسكرها. ولكن هنا بشيء من التميز: هنا تقام في الوقت نفسه علاقة ايضاً مع كثلكة الشرق التي يمثلها الموارنة. وهنا، بعكس المستعمرات الأخرى، يكون المسلمون هم ايضاً شركاء في دولة مدنية. يا لها من لقية مثالية للشعار الذي ترفعه باريس "المهمة التحضرية" فوق السفن المبحرة نحو "عبر البحار". ولكن في هذه المهمة، كان عليها أن تستعين بالسنغاليين، و"الفرقة الأجنبية" كما استعانت بريطانيا برجال "الغوركا" في الهند، لكي يتحمل المرتزق وزر الخطأ.
لم ترق فكرة لبنان كدولة، لعدد غير قليل من الواقعين في الخريطة الجديدة. كثيرون رأوا فيها دولة مسيحية مقنَّعة في عالم إسلامي بمشرقه ومغربه. والبعض اعتبرها حصناً استعمارياً غربياً في الشرق العربي. وكان قد سبق هذا الحصن إقامة مراكز الطريق اليه: الجامعات، والأديرة، والإرساليات، والشعراء الذين هاموا بهذا الخليج الأخضر في زرقة المتوسط، وسمّوه "بلاد الأرز" كعلامة فارقة.
نشأ لبنان الكبير، بحكم موقعه الجغرافي وقدره التاريخي. حول مجموعة من اللبنانات، كل واحد منها يعتبر الآخر غريباً، أو خصماً أو عدواً. ومنذ اللحظة الأولى حاول كل لبنان منها ان يلغي الآخر، أو أن يبتعد عنه. وبدا اهل الجبال النازلون الى المدن بلباس الامارة القديم، غرباء متطفلين. وقام الى جانب لبنان الفرنسي، أو قبالته، لبنان عروبي ولبنان انكلو- سكسوني. وفي المرحلة نفسها هُجِرت إليه من الجوار اقليات وإثنيات تاريخية مثل الأرمن والكلدان والسريان.
على الورق بدا مثل هذا المزيج من المشارقة خليطاً بشرياً نادراً. لكن في الباطن كبرت المخاوف وتعمق التربص. المسيحيون يخافون الزوال، والمسلمون يخافون الذوبان. وكما ادت المخاوف والمطامع الى حروب القرن التاسع عشر، ادّت ايضاً الى حروب اعنف واوسع نطاقاً في القرن العشرين. وفي كل الحالات ظل العنصر الخارجي هو العامل الأهم. وعلى نحو مضحك، أو مبكٍ او مذل، ظل الخارج هو السبب وهو الحل. وعلى النحو نفسه ظلت لكل طائفة دولتها: روسيا للروم، وفرنسا للموارنة، وانكلترا للدروز، والنمسا للروم الكاثوليك. وفي القرن الماضي عادت مصر للسنّة كما في ايام ابراهيم باشا، ثم حلّت محلها السعودية، جاءت ايران للشيعة مع سقوط الشاه، والآن تظهر تركيا من جديد خلف رايات اردوغان الفاتح.
تنقل اللبنانيون بخلافاتهم ونزاعاتهم وحروبهم في عواصم العالم يبحثون فيها عن المصلحة والمصالحات. في كل ارض تنقلوا إلا ارضهم. جنيف ولوزان وباريس والرياض والطائف والكويت والدوحة. بلد يولد ولا يعيش، ويعمّر ولا يحيا. باقة من الزهر في اناء مكسورة ترشح مياهه خارجا.
كل منا خيّل إليه ان لبنان اكبر مما هو. نبني آنى نشأ لبنانا، قال سعيد عقل وهو "يرود الأرض". ومع اعلان لبنان الكبير فوق عشرة آلاف كيلومتر مربع، كان جبران خليل جبران يوزع كتابه "النبي" في اللغات والقارات. وكانت مي زيادة تقيم في القاهرة صالوناً يجمع طه حسين والعقاد ووليّ الدين يكن ومصطفى الرافعي وسائر مفكري وعمالقة الاسلام. ومن اجل ان ينزع المسيحيون عن انفسهم عقدة الطائفية، راحوا يبهرون في فقه اللغة وفي إحياء التاريخ الاسلامي، كما فعل جرجي زيدان، أو ينصهرون فيه كما فعل احمد فارس الشدياق.
صحيح ان فرنسا المنتدبة اعلنت الدولة، لكن كان على المواطنين ان يبرروا انهم استحقوها. لذلك قدموا افضل من لديهم في السياسة والفكر والنهضة. شكيب ارسلان ورياض الصلح وبشارة الخوري وايوب تابت والفرد نقاش ومحمد الجسر. وساهم نجيب علم الدين في تأسيس الدولة الأردنية الجديدة، كما ساهم آل حيدر في بناء العراق المستقل. وفي تجربة لا مثيل لها في تاريخ الأمم، انشأ اللبنانيون صحافة مصر، وكالعادة، تقاسموا الطموحات، كريم تابت كبير مستشاري الملك، وخيرالله يؤسس الحركة العمالية واليسارية.
لم تكن شيئاً بسيطاً على الاطلاق، بدايات هذه المئوية المنتهية هذا الأول من ايلول، بالزيارة الثانية لرئيس فرنسا في شهر. يزور الشاب ماكرون بلداً عتيقاً سقط في نهاية القرن ونهاية العمر. عندما انتخب هو كان رمزاً مذهلاً لفرنسا المتجددة من ضمن الاستمرار. فيه شيء من ديغول وشيء من فرنسوا ميتيران وشيء من جورج بومبيدو. كلها في حيوية ايمانويل ماكرون. عاشت فرنسا قرنها تتغير: من الجمهورية الرابعة الى الخامسة الى ديغول الى ميتيران إلى ماكرون.
أما الكيان الذي اعلنته العام 1920 فهو ينهي قرنه بين الركام. وطن يتقاذفه الجميع، ودولة يسوقها حراسها الى الخراب. والمشهد المريع كان في استقبال الرجل الذي جاء يشارك في الاحتفال باعتباره من اصحاب الدعوة. بقايا عاصمة افترسها التنين، وليس لها سوى متطوعيها والمحسنين. وبقايا سلطة تتحدث عن بلدها، وكأنه يقع في قارة اخرى. دولة تطبع البيانات الرسمية وتجتمع في قصرين وتتحدث عن الدستور، مرة واحدة على الأقل في الاسبوع، بما فيها ايام العطلة.
ماذا جاء يلملم حفيد غورو: ألم يرَ أن اللبنانيين يوزعون حلوى التهاني في مآتم بعضهم البعض؟ ألا يقرأ ما يكتبونه على المواقع وبأي لغة وبأي قتل وحقد وكره ونفَس كريه؟ ألا يسمع افتتاحيات التلفزيونات وكيف تهبط بالاخلاق إلى ما تحت الزنانير؟
هذه المرة، عزيزي الرئيس، تبدو المسألة حزينة كالنهايات. ألم تسمع كلام وزير خارجيتك عن الخوف من الزوال؟ ألم تر وزير خارجيتنا السابق يهرول مولولاً من رعب الدولة الفاشلة، مستغيثاً مما حدث على ايدي الذين لم يروا في لبنان اكثر من حفلات انقاذية ما بين لاس فيغاس وجمهورية الدومينيكان؟ ألم يصل إليك أن المتصرف بالديبلوماسية اللبنانية، رشّح لمديرية الاونيسكو، سكرتيرة سفير لبنان الى جمهورية ماكرونيزيا، مبعداً مستبعداً، صاحب قامة دولية مثل غسان سلامة. وبكل فجاجة وازدراء لكل التمنيات والرغبات والمعايير الوطنية... ألم؟
مسكينة بيروت في هذا الاحتفال. عاصمة مقطعة الاوصال، ووطن ممزق الاسمال. كان الفرنسيون الامبراطوريون يسمونها الأسكلة. أساكل الشرق. ويقصدون بذلك المرافىء التجارية الكبرى التي يقوم عليها اقتصاد الامبراطورية، كما شرحها فؤاد افرام البستاني، واستعارها امين معلوف عنواناً لإحدى رواياته. "قرن من أجل لا شيء"، كان عنوان حوار غسان تويني وجان لاكوتور وجيرار خوري. وذهب جورج نقاش في تشاؤمه الى ابعد من الجميع عندما رمى في وجوهنا ومضى، جملته الحادة "نقيضان لا يصنعان وطناً".
"قرن من الحروب والدماء" كتب فيليب سالم مستدركاً ان لبنان سوف ينتصر. ولكن وزير خارجية فرنسا خائف على لبنان من الزوال بعد مائة عام صارت فيها القضية اللبنانية في سلعاتا والنصر في إبعاد سعد الحريري. ما من مرحلة تماشت مع بقاء لبنان إلا العقدان اللذان سبقا الاستقلال. وبعد ذلك، تنازعت الاحزاب والاهواء والعقائد، الضغط بالركبة على عنق لبنان كما فعل الشرطي شوفان مع ضحيته جورج فلويد، حتى الموت.
لم يعد للبنان الذي ولد قبل 100 عام، علاقة بلبنان الذي صار إليه. العجيب أنه بقي بعد كل ما حل به من كره وحقد وخنادق ومتاريس. فرّغوه من اسباب وجوده ومن معانيه واعتبروه لقيطاً يجب طرده. والآن يفرغونه من اسباب حياته من ازدهار وبقاء. ولو عاد الأمر الى اللواء محمد فهمي لكان اسدى الى ماكرون تلك النصيحة الذهبية: لا تعذب حالك. تلفن!
ايلول شهر جميل وعذب في فصول لبنان. كما غنى ماكرون من فيروز "بحبك يا لبنان" قد تغني له سيدة لبنان الأخرى "ورقو الاصفر شهر ايلول تحت الشبابيك". اختار ماكرون ان يبدأ زيارته بلقاء اجمل رمز لبناني خلال مائة عام. السياسيون هناك الكثير منهم يولدون ويتكاثرون وينهمون ويورثون ولا يعطون لبنان لحظة وفاء او ضمير. فيروز اعطت لبنان الى لبنان. حلّقت به فوق الطوائف وزعامات الاكراه، واحتضنته عليلاً ضعيفاً نازفاً تنشد له: "أنا الام الحزينة". مسكين يا لبنان.