كتب محمود القيسي:
"ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ: ﻻ ﺗﺴﺄﻟﻨﺎ: ﻣَﻦْ ﺃﻧﺘﻢ؟
ﻭﻣﺎﺫﺍ ﺗﺮﻳﺪﻭﻥ ﻣﻨﻲ؟
ﻓﻨﺤﻦ ﺃﻳﻀﺎً ﻻ ﻧﻌﺮﻑ.."
*محمود درويش
"لا ينقصنا إلا الثورة في قلوبنا".. الوطن الذي يتخبّط دون ان يعرف شماله من جنوبه.. شرفه من غربه وقادته عميان… أنه باب مفتوح لعوالم غريبة مشبوهة… تجول في هذا الظلام حيث تصول الأرواح الحية والميتة في بحيرة سلطة الفساد السوداء… الوطن الذي اغتيل النور فيه في سلطة بلاد العميان… القتيل فيهم أعمى، والشاهد فيهم أعمى، والقاتل فيهم أعمى… في وطن العميان… الوطن الذي يلتهم أبنائه الأحياء منهم والأموات…!
"المثقف هو أداة الوعي".. المثقف لا يتردد في قول لا أعرف، وحين يجد المثقف نفسه واقفاً على أطلال الكتب في مدينة الثقافة والعلم والنور والمعروفة تاريخيّاً، ويرى كتب الفنّ تحت أقدام الجهل، لا يجد سوى القلم وهو السلاح الوحيد في محاولة هي أقرب إلى صرخة تخرج من شغاف القلب، علّ النزف يدخل إلى روح من تصافح أعينهم هذه الكلمات، ويعيد بناء هذا الصرح المهدّم من الجمال لرأب الصدع الذي تركه الجهل في النفوس والوطن.
"عام يذهب وآخر يأتي وكل شيء فيك يزداد سوءاً يا وطني".. الأعمى هو أعمى البصيرة، والأعمى هو الذي أغلق روحه عن عناق النور، وألوان الحياة، واستساغ سكن القبور، ورائحة العفن من المارين في أزقّة الظلم، ينهشون ضوء الحياة الصارخ. إنّ الجدار الفاصل بين المبصرين والمكفوفين أعتى من سور الصين، كيف لنا أن نخترقه؟ هناك حلّ واحد، هو أن تكون واحداً منهم، وأسهل طريقة لضمان درء الخطر هو أن تفقأ العين، وتنضمّ إلى الجماعة، وتتخلّى عن المنطقة الرمادية المكروهة من الجميع.
"بلَدٌ يُولَدُ من قبر بَلَد.. ولصوصٌ يعبدون الله كي يعبدهم شَعبٌ.. أسياد للأبد وعبيدٌ للأبد".. إنّ الظلام هو ستر للأفعال السيئة، فالحرامي يتخفّى تحت ستر الظلام كي يسرق، والقاتل يلبس قناع الظلام، ومن يظلم يتخفّى ولا يريد أن ينكشف في النور، ومن يرتكب الأفعال الأثيمة يتخذ من الظلام حاجباً كي لا يُرى ، فمن هو من النور يمشي في النور، ومن هو مظلم يتخفّى في الظلمة، ويخشى النور، ومن يمشِي في الظلام يضيع، لا يعلم إلى أين يمضي. الفساد المتفشّي نوع من العمى المستشري في المجتمع حين يصبح المواطن مستلب الإرادة، دمية تتحرّك في بحر الآخر القابع على الصدور.
هل في وسعي أن اختار أحلامي، لئلا أحلم بما لا يتحقق؟ أيهما قبل الآخر، النور أم الظلمة؟ في هذا السؤال يقبع السؤال الأكبر، أيّهما كان في الأرض أولاً الشرّ أم الخير؟ علّها أسئلة ساذجة، لكنّها تحوي الكثير من الفلسفة التي يدوخ في دوّامتها الكثير من البشر. ما الفرق بين الضوء والنور؟ الضوء أقوى من النور وأسطع، لأنّه نتاج ذاتي، أما النور فما هو إلا انعكاس أو اكتساب من جسم آخر، فمن يعش في النور فهذا ليس منه بل هو من الآخر الذي يشعل النور الذي فينا.
"الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم".. إنّ للإنسان إرادة تفتّت الصخور، ولا يقف أمامها سدّ، ولكن عليه أن يتقن الدور، ويخترق الأنفاق، ويدرك ما وراء الكواليس، ولا يسمح للهواء الفاسد أن يثبّط من عزيمته. يمتطي الريح، أو يحمل رفشه، ويحفر في الأرض، ليصل إلى غور أسرار هذا العالم المظلم، وما يدور فيه من غموض وانتهاكات وخروقات، وقد يحترق، ولكن لا يبالي، فالوصول إلى الضفة الأخرى هو الهاجس الوحيد. عندما يبتعد الإنسان عن النظر في الأمور بعين البصر السطحية تنفتح بصيرته، ويرى الأمور أعمق وأصدق ممّا تصوّرها، فالبصيرة ترى الروح، أمّا البصر فيرى الجسد الفاني فقط.
سلطة تغمد في صدر المواطن خنجراً بإسم الوطن وتصلي على قبلة الأصنام والطوائف لتنال المغفرة.. إنّ المتعصّب الطائفي في بلادنا هو من يغار من المعرفة، والعلم هو النور الذي ينير ويوسع آفاق الإنسان، والمثقّف يساعد على دحض الظلم، فلرائحة الكتب عطر يؤجّج الروح بنشوة المعرفة، وهنا يطلق المتعصّب سهمه الناري ليحرق الكتب والمكتبة وكلّ طالب وناشر علم. وعابد الأصنام الجاهل في عصرنا عندما يعرّيه نور المعرفة يصبح ثوراً هائجاً ينزل مقصلته على رقبة النور ليجتثه… لقد اغتيل النور في عالم العميان، القتيل أعمى، والشاهد أعمى، والقاتل أعمى، كيف لعالم ظالم أن يحقّق العدل؟ “نحن نسبح في عالم سديمي منفلت من قيود الزمان والمكان، زاخر بالمعاني وأضدادها، كلانا سيبحر في رحلة العتمة بلا حقائب، ولا أوراق ولا جوازات سفر بعد أن أصبح العمى قدرنا حتى لو كنا مبصرين… في وطن الأحياء الأموات!
سئلني سائل في مقهى المنسيين: لماذا تتغير المواقف في بلادنا كثيراً..؟! أجبته: من كثرة أعداد الانتهازيين، والوصوليين، والمستفيدين والفاسدين... أردف قائلاً: وكيف يكون ذلك؟ قلت له: تتغير المواقف عند الانتهازيين عموماً وفي لبنان خصوصاً بناءً على من يدفع أكثر… طلب مني تقديم مثال على ذلك يشفي غليله… لم يخطر على بالي في تلك اللحظة سوى صاحب مقولة غزارة في الإنتاج.. سوء في التوزيع.. واستطردت قائلاً: في إحدى الحفلات، جلست إمرأة فاتنة بجانب الكاتب الشهير جورج برنارد شو، فهمس في أذنها: "هل تقبلين أن تقضي معي ليلة مقابل مليون جنيه..؟!!
إبتسمت و ردّت في إستحياءٍ: "طبعاً.. بكل سرور".
عاد وسألها مرة ثانية بعدما إقتنع برضاها، هل من الممكن أن نخفّض المبلغ إلى عشر جنيهات..؟!!
فغضبت و صرخت في وجهه: "من تظنني أكون يا هذا..؟!!
فقال: سيدتي.. نحن عرفنا من تكونين، نحن فقط إختلفنا في قيمة الأجر..!!
وقد أدرج هذه القصة الساخرة في مذكراته، مشبهاً إياها بما يحصل ...حيث تتغير المواقف عند الإنتهازيين بناءً على من يدفع أكثر، فإذا إنخفض أجرهم إنقلبوا إلى المعارضة وحدّثونا عن الوطنية.. وعن المبادىء.. والأخلاق الوطنية الحميدة!