لن يمر “بابا نويل” يوم الاثنين على بيوت الأرمن الأرثوذكس في لبنان، ولا مكان للـ” Bûche de Noëel على طاولة العشاء المخصصة لعيد ميلاد الأرمن، والضائقة الاقتصادية ليست السبب في هذا الموضوع. فللأرمن عاداتهم وتقاليدهم الخاصة التي يتمسكون بها جميعاً وبشدّة، ما جعلهم مجموعة واحدة متشابكة وملتزمة بعاداتها وأعيادها في كلّ أماكن انتشارهم في انحاء العالم أجمع، محافظةً على تراثهم الأصيل. فلماذا يحتفل الأرمن بعيد ميلاد السيد المسيح في 6 كانون الثاني؟ وماذا عن عاداتهم وعن تقاليدهم؟
لا يشبه عيد ميلاد الأرمن غيره من الأعياد، بل يتميز بنكهة خاصة به، وكأنه شعلة نور “أرمنية” تضاء في بلدان أخرى. تحتفل الطائفة الأرمينية الأرثوذكسية في لبنان وفي كل بلدان الانتشار بعيد ولادة المخلص يسوع المسيح يوم الاثنين الواقع فيه 6 كانون الثاني، توازياً مع عيد الغطاس لدى الطوائف الكاثوليكية. ولا بدّ من التذكير بأنّ أرمينيا هي الدولة الاولى التي آمنت بالمسيحية في العام 301. وعلى الرغم من مرور وقت طويل على هذا التاريخ، الّا أنّ تقاليد الأجداد المتوارثة وتواريخ الأعياد المسيحية الرئيسة ما زالت محفوظة بعناية لدى الشعب الأرمني.
لماذا 6 كانون الثّاني؟
ظل المسيحيون يحتفلون بعيد ميلاد المسيح حتى القرن الرابع في 6 كانون الثّاني من كل عام. وواصل الرومان وحتّى بعد قبولهم الديانة المسيحية الإحتفال بالأعياد الوثنية. فقدمت كنيسة روما اقتراحاً يحل هذه المسألة، معلنةً في العام 336، أنّ يوم 25 كانون الأول، (الذي كان يعتبر يوم عبادة إله الشمس)، هو عيد ميلاد يسوع ليبدأ بعدها الاحتفال بولادة السيد المسيح في هذا التاريخ في انطاكية والشرق، وبقي 6 كانون الثاني يوم عيد الظهور الإلهي والمعمودية (الغطاس). ولكن الكنيسة الرسولية الأرمينية بقيت مخلصة للتقاليد القديمة التي اتّبعها المسيحيون حتى القرن الرابع.
صلاة وترانيم
لهذا العيد قدسية خاصة عند الأرمن، وللعادات والتقاليد حكاية من نوع آخر، فـ”بابا نويل”، لا يمر على المنازل لتوزيع الهدايا، ويخصص الأرمن ولادة يسوع المسيح للصلاة فقط واقامة الترانيم الدينية، ويتركون تبادل هداياهم لليلة رأس السنة. ومن العادات الموروثة أيضاً، البدء بصلوات عيد الظهور في ليلة الخامس من كانون الثاني واضاءة الشموع في جميع الكنائس، ونقلها الى البيوت، إيماناً منهم بأنّ هذه الشعلة هي التي أنارت المجوس وهم في طريقهم الى بيت لحم. وبعد صلاة العيد في 6 كانون الثاني، تجري عملية مباركة الماء بالصليب والميرون رمزاً لمعمودية السيد المسيح. وتوزع المياه المباركة على الشعب كعلاج للروح والآلام الجسدية. ولأن الملائكة في بيت لحم بشروا الرعاة بولادة ملك الملوك ورنموا لولادة المخلص، تزور جوقة كل كنيسة منازل رعاياها للترنيم والصلاة في ليلة العيد، وهو تقليد سار في أرمينيا منذ ما يزيد عن الألف سنة. ومن العادات التي توارثها الأرمن في زمن الميلاد، إحياء تذكار الموتى وزيارة المقابر في السابعِ من كانون الثاني.
طاولة العيد… نكهة أرمينية خاصة
وبالإنتقال إلى العادات تزين طاولة عيد الميلاد عند الأرمن بالأطباق الأرمينية التقليدية، وتقول السيدة أربي ماغاسيان صاحبة مطعم “badguer” في برج حمود عاصمة الأرمن في لبنان لـ”نداء الوطن” إنّ “السمك موجود دائماً على طاولتنا، كذلك طبق السبانخ مع البرغل الخشن. ولا تغيب الفاكهة المجفّفة عن السفرة الأرمينية، لافتقاد أرمينيا أنواع الفاكهة الطبيعية. وتتنوع الحلويات الأرمينية المخصصة لهذه المناسبة، أبرزها الـ”أنشابور” وهو عبارة عن قمح مدقوق حلو المذاق، و”الغدايف” أو ما يعرف بالقطايف وهي عبارة عن عثملية جوز، “خوشاف” عبارة عن قمر الدين الذي ينقع في المياه، ويضاف إليه الكرز البري والخوخ المجفف والقرفة وجوزة الطيب وعود القرنفل، والـ”بارابورما” بقلاوة خاصة بالأرمن تتألف من رقاقات البقلاوة الرفيعة، المحشوة بالجوز والسكر والقرفة”.
يبدأ الأرمن عيش روحية العيد ابتداءً من 24 كانون الأول حتّى 6 كانون الثاني، فالعيد لا يحصر بيوم واحد، وبرأي أربي إنّ “الفرح والخشوع والمحبة من أهم ميزات عيد الميلاد، كذلك الخشوع فنحن كأرمن نطفئ الأضواء عند الساعة 12 من ليلة العيد، ونصلي خاشعين الـ”Hayr mer” أي “الأبانا”، ونقبّل بعضنا البعض بعدها قائلين “kristos dzenav yev haytnetsav”، أي “ولد المسيح وتجلّى”، فنشعر كأننا ولدنا من جديد. هذه التقاليد تسمعنا أصوات أجدادنا وتشعرنا بروح المناطق الأرمينية التي كانوا يسكنونها بكل محبة في أرمينيا. ونحرص على الالتزام بعاداتنا حتّى في ” badguer “، فمن المستحيل أن نغلق باب المطعم قبل دخول الفرقة الموسيقية الخاصة بهذه المناسبة، والتي تعزف على الآلات الموسيقية وترنم التراتيل في شوارع برج حمود، لاعطاء البشارة للمؤمنين. كما نطفئ الأضواء لحظة دخولهم، ونأخذ منهم البشارة، ونقدم لهم الحلويات الأرمينية”.
وأخيراً، مهما اختلفت تواريخ الاحتفالات وتنوعت العادات والتقاليد، يبقى العيد الحقيقي برمزيته وبولادة مخلصنا يسوع المسيح، ونعيد الأرمن في عيدهم على طريقتهم قائلين “Tzezi mezi meds Auedis”( ولادة المسيح بشارة كبرى لنا ولكم) و”Chnorhavor surp dzenunt” (ميلاد مجيد).
يجمع عيد الميلاد آلاف الارمن الارثوذكس في لبنان، وفقاً لارقام تقديرية متداولة، ويتراوح عدد الارمن (من مختلف الطوائف) بين 60 و90 الفاً، ويشكل الارمن الارثوذكس النسبة الاكبر منهم، ويتبعون لكاثوليكوسية بيت كيليكيا الكبير، ومقرها في انطلياس منذ العام 1930. ويشمل نطاق سلطتها، الى جانب لبنان، سوريا وقبرص واليونان وايران والكويت والخليج وكندا والولايات المتحدة وفنزويلا، بما يشكل مجموع نحو 1285000 مؤمن.
ويعتبر الأرمن عطلة عيد الميلاد الفرصة الأنسب للتجديد الكامل للانسان، وثمة تقاليد أرمينية قديمة التي ما زال يتمسّك فيها البعض، أبرزها:
– الابتعاد عن الطاقة السلبية في يوم العيد. لذلك، يحظر جميع المشاجرات والإجراءات السلبية.
– لا ينصح بارتداء ملابس داكنة في الاحتفالات، ظنّاً أنها تجذب الطاقة السلبية.
– الابتعاد عن الأعمال البدنية كالخياطة والتنظيف وإزالة القمامة. ويجب إكمال جميع الأعمال قبل عشية عيد الميلاد. لا يمكن رمي القمامة في يوم عطلة.
كذلك، يجب على الذين يلتزمون بالتقاليد القديمة ويأكلون وجبة عشية عيد الميلاد أن يتذكروا أنه من المستحيل إزالة الأطباق من الطاولة الاحتفالية حتى منتصف الليل. ولكل نوع من المأكولات على الطاولة الأرمينية رمزية:
– السمك: يرمز الى المسيح.
– الفاكهة المجففة: ترمز الى الانسانية والمسيحيين.
– الخضار والأعشاب: رمز الحياة الجديدة والخصوبة.
– النبيذ: دم المسيح وخطايا البشر.