لفت رئيس الجمهورية ميشال عون الى أن عوامل عدة، منها خارجي ومنها داخلي، تضافرت لتنتج أسوأ أزمة إقتصادية ومالية واجتماعية ضربت لبنان.
واعتبر عون في كلمة أمام أعضاء السلك الديبلوماسي ومديري المنظمات الدولية قبل ظهر اليوم في قصر بعبدا جاؤوا لتهنئته بالأعياد أنه منذ بداية هذا العهد شكّل الوضع الاقتصادي والمالي الهمّ الأكبر، وقال: "بذلتُ جهوداً كبيرة للمعالجات الاقتصادية ولكنها لم تأتِ بكل النتائج المأمولة لأن الوضع كان سيئاً والعراقيل كثيرة. وقد أدّى الضغط الاقتصادي المتزايد الى نزول الناس الى الشارع بمطالب معيشية محقة وبمطلب جامع لكل اللبنانيين وهو محاربة الفساد."
من جهته، شدد عميد السلك الدبلوماسي السفير البابوي المونسنيور جوزف سبيتيري، على اهمية الحوار وخصائصه التي تحترم الآخر ورأيه ولا تقصي احداً من المعارضين او الموالين او غير الراغبين بأخذ اي طرف. وشدد على ان "آفة الفساد، التي لطالما لقيت شجبًا من فخامتكم، تعرقل عمل الدولة في خدمة جميع مواطنيها بشكل فعّال".
وقال ان "الحوار مستحيل إذا لم نعتبر بعضنا البعض متساوين. هذا الحدس الأساسيّ يكمن في عمق مبادرة فخامتكم في إنشاء "أكاديميّة اللقاء والحوار"، التي أقرّتها الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في 16 أيلول 2019. نرجو فخامتكم قبول أصدق تهانينا، وأفضل تمنيّاتنا لتنفيذ سريع لهذا المشروع الخيّر في خدمة الأخوّة الإنسانيّة في لبنان وفي العالم كلّه."
ولفت الى أن "المجتمع الدوليّ، الممثّل هنا برؤساء البعثات الدبلوماسيّة ومسؤولي المنظّمات الدوليّة، لا زال يشدّد على ضرورة حوار صادق قائم على الإحترام بين القادة السياسيّين انفسهم، كما بينهم وبين اولئك الّذين يطالبون بالتغيير الحقيقيّ." وامل في "أن يؤدي الحوار إلى تشكيلٍ سريعٍ لحكومةٍ يُكتبُ لها الحياة، لكي تقرّ الإصلاحات الطارئة والضروريّة وتوضع حيّز التنفيذ، ولكي تُستعاد الثقة لدى جميع اللبنانيّين ولدى جميع أصدقاء لبنان."
وكان الحفل بدأ بتوافد السفراء يتقدمهم المونسنيور سبيتري الى القصر الجمهوري على وقع موسيقى الجيش التي عزفت الحانا خاصة بالمناسبة. وبعد اكتمال الحضور، انتقل السفراء الى قاعة 22 تشرين الثاني حيث صافحهم الرئيس عون فيما قدموا له التهاني باسم رؤساء دولهم.
السفير البابوي: وفي بداية اللقاء، القى السفير البابوي كلمة هنّأ فيها الرئيس عون بحلول الاعياد، وقال: "يعتري غالبيّةَ اللبنانيّين انزعاجٌ عميقٌ بسبب ظاهرة مضادة في المجتمع اللبنانيّ تتمثّل بآفة الفساد، التي لطالما لقيت شجبًا من فخامتكم. للأسف، إنّ هذه الظاهرة المضادّة تعرقل عمل الدولة في خدمة جميع مواطنيها في شكل فعّال. إنّ الفساد يعيق الحكومة في تأمين تعليم جيّد، وعناية طبية، وضمان اجتماعي، ومياه وكهرباء ... إنّ هذه الآفة تحدّ من الحماية ومن الضمانات التي تؤمّنها سيادة القانون. لذا، ذُهلنا بالدعوة الصادقة إلى التجديد القائم على الأخلاقيّات في البلد، الّتي أطلقها الشباب خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حيث عمّت الاحتجاجات جميع الربوع اللبنانيّة. إنّ الشباب، مصحوبين من الأجيال السابقة، ومدفوعين من روح تضامن عميق، اجتمعوا حول العلم اللبناني، مطالبين بالاحترام لحقوقهم الثابتة. لقد طالبوا أيضًا باصلاحات سياسيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة. فهم ضدّ الفساد، وهم يطالبون بغدٍ أفضل، وإنّهم لمستحقّونه".
وشدد على أنه "لا أخوّة انسانيّة ممكنة بدون حوار. إنّ المجتمع الدوليّ، الممثّل هنا برؤساء البعثات الدبلوماسيّة ومسؤولي المنظّمات الدوليّة، لا زال يشدّد على ضرورة حوار صادق قائم على الإحترام بين القادة السياسيّين انفسهم، كما بينهم وبين اولئك الّذين يطالبون بالتغيير الحقيقيّ. لا يستطيع الحوار أن يُقصيَ أيَّ أحدٍ: المؤيدين، والمعارضين، وغير الراغبين في أخذ موقف مع أيّ طرف. لكلّ مواطن الحقّ في أن يُسمعَ صوتُه. إنّ أيّ نوع من العنف، نفسيًّا كان أم جسديًّا، يدمّر امكانيّة الحوار، تمامًا كما يدمّرها إلقاء اللوم، في شكل دائم، على الطرف الآخر. والحوار الصادق يتطلّب انفتاحًا، وإرادة صالحة، ورغبة في الوصول إلى اتفاق، من خلال التضحية ببعض المواقف والأفكار. كلّ ذلك، من أجل الخير العام. نجدّد اليوم التعبير عن أمنيتنا الحارّة في أن يؤدي الحوار والإرادة الصالحة عند جميع الفرقاء المعنيّين، إلى تشكيلٍ سريعٍ لحكومةٍ يُكتبُ لها الحياة، لكي تقرّ الإصلاحات الطارئة والضروريّة وتوضع حيّز التنفيذ، ولكي تُستعاد الثقة لدى جميع اللبنانيّين ولدى جميع أصدقاء لبنان".
أضاف: "فخامة الرئيس، يبدو أنّ احتفالات المئوية الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير محجوبةٌ بالثورة اللبنانية، وبالأزمة الماليّة والإقتصاديّة، وبالمشاكل المرتبطة بتشكيل الحكومة الجديدة. ليست هي المرة الأولى التي يمرّ بها لبنان بأوقات شديدة الصعوبة. كلّ ضائقة شديدة تُنذر بنهاية حقبة، ولكنّها ليست أبدًا نهاية التاريخ. إنّ اللبنانيّات واللبنانيّين سوف يتابعون، كمواطنين أحرار في بلد حرّ، كتابة فصول جديدة في تاريخهم. نحن مقتنعون أنّ اللبنانيّين يُحسنون أخذ الموقف الصائب لاكتشاف الفرص الجديدة التي تتظهر من خلال الأزمة الحاليّة. اللبنانيّون غير خائفين من الجراحات التي قد تسبّبها اللقاءات الصادقة بين البشر، لأنّهم يؤمنون أيضًا أنّ التضامن يشفي كلّ جرح. في هذا الصدد، أودّ أن أحيّيَ، بإجلال، دور المرأة اللبنانيّة في المجتمع وفي الإدارة، وخصوصًا في الثورة الحاليّة، لأنّها لا تطلب فقط تجديدًا جذريًّا، بل لأنّها تشهد أيضًا للتضامن الفعّال. عسى أن يُلهمَ مَثَلُها جميعَ الذين يُمسكون بزمام السلطة، خصوصًا في القطاع المصرفيّ وفي السياسة، لكي يكونوا موضع مساءلة، ولكي يأخذوا القرارات الصائبة والأخلاقيّة الآيلة إلى خدمة لبنان ومواطنيه، خصوصًا في هذا الوقت العصيب. إنّ أصدق تمنيّاتنا هي أن تشكّل هذه المئويّة فرصة سانحة لإعادة اكتشاف الحدس الأساسيّ الذي كان وراء تأسيس لبنان الوطن، ليس أوّلاً كوطن يجمع أقليّات، بل كجماعة من المواطنين الأحرار، ينصّ الدستور عن الطابع الثابت لكرامتهم، ولمساواتهم، ولحقوقهم".
وختم: "من غير الممكن إنهاء كلمتنا، بدون ذكر الوضع الحاليّ في الشرق الأوسط. إنّنا جميعنا مرتبطون ثقافيًّا، بطريقة أو بأخرى، في هذه المنطقة من العالم، هذه المنطقة التي لا زالت تعاني من حروب لا تنتهي، والتي تواجه اليوم تشنجات متجدّدة. نتمنّى الاستقرار والنموّ الإنسانيّ الكامل لجميع شعوب المنطقة. نريد، اليوم، حثّ جميع اللبنانيّين على المثابرة الجلودة على الالتزام بالحريّة، وبالحقوق الأساسيّة، وبالديموقراطيّة، وبالتضامن، لكي يظلّ اللبنانيّون مصدر إلهامٍ ورجاءٍ عن امكانيّة العيش المشترك والمتناغم، وعن التطوّر، ليس فقط في بلاد الأرز، بل أيضًا في البلدان المجاورة".
ثم القى الرئيس عون الكلمة التالية: " سعادة السفير البابوي المونسنيور جوزيف سبيتيري عميد السلك الدبلوماسي، أصحاب السعادة، حضرة ممثلي البعثات الدبلوماسية المعتمدة في لبنان، لقد تضافرت عوامل عدة، منها ما هو خارجي ومنها ما هو داخلي، لتنتج أسوأ أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية ضربت لبنان؛ خارجياً كان للأزمات الاقتصادية في العالم انعكاسٌ سيء على اقتصادنا، أضيفت اليها حروب الجوار التي حاصرت لبنان وأغلقت بوجهه مدّه الحيوي وأسواق التصدير ولمّا تزل، ما أثر في شكل كبير على القطاع التجاري والصناعي والزراعي فيه، كما أفرزت أثقل أزمة على اقتصاده المنهك أصلاً وأعني أزمة النزوح التي أدخلت إليه ما يقارب نصف عدد سكانه الأصليين. وليكتمل المشهد جاء الحصار المالي الذي حدّ من انسياب الأموال من الخارج، وتسبب بأذى كبير للاقتصاد اللبناني وللسوق المالية".
ومضى قائلا: "داخلياً، يدفع لبنان ثمن تراكم ثلاثين عاماً من سياسات اقتصادية ومالية خاطئة اعتمدت على الاقتصاد الريعي والاستدانة، على حساب الانتاج خصوصاً في ميدان الصناعة والزراعة، إضافة الى فساد وهدر في الإدارة على مدى عقود. ومنذ بداية هذا العهد شكّل الوضع الاقتصادي والمالي الهمّ الأكبر، فكان إقرار مراسيم استخراج النفط والغاز البند الأول على جدول أعمال الجلسة الحكومية الأولى، وتم وضع خطة اقتصادية وطنية شاملة، وأقرت مشاريع لتحديث البنى التحتية، وتمويلها من الجهات المانحة في إطار مؤتمر سيدر. إلا أن الخطط بقيت من دون تنفيذ. مالياً، سعيت بقوة لعودة المالية العامة لكنف الدستور وقانون المحاسبة العمومية، فأقرت ٣ موازنات بعد ١٢ عاماً على انقطاعها، وعلى الصرف العشوائي المخالف للدستور. نعم، بذلتُ جهوداً كبيرة للمعالجات الاقتصادية ولكنها لم تأتِ بكل النتائج المأمولة لأن الوضع كان سيئاً والعراقيل كثيرة. وقد أدّى الضغط الاقتصادي المتزايد الى نزول الناس الى الشارع بمطالب معيشية محقة وبمطلب جامع لكل اللبنانيين وهو محاربة الفساد".
اضاف: "لقد شكّلت التظاهرات خصوصاً في بداياتها، فرصة حقيقية لتحقيق الاصلاح المنشود لأنها هزّت المحميات الطائفية والسياسية وقطعت الخطوط الحمر وباتت المحاسبة ممكنة، وأعطت دفعاً قوياً للقضاء فتحرك في أكثر من اتجاه، وأقرت الحكومة السابقة ورقة اصلاحات كان يستحيل اقرارها في السابق. ولكن محاولات استغلال بعض القوى السياسية للتحركات الشعبية أدّت الى تشتّت بعضها وإغراقها في راديكالية رافضة، وأفقدتها الوحدة التي انطلقت منها للمطالبة بإحداث التغيير، كذلك نمط الشائعات المعتمَد من بعض الإعلام وبعض المتظاهرين، حرّف بعض الحراك عن تحديد مكامن الفساد الحقيقي وصانعيه بصورة صحيحة، ولا زلت أعوّل على اللبنانيين الطيبين في الشوارع والمنازل لمحاربة الفساد".
وأردف: "من ناحية أخرى، تعامل الجيش والقوى الأمنية بحكمة كبيرة مع هذه الحركة الشعبية، فأمّنوا أمن المتظاهرين وسلامتهم، وحفظوا حريتهم في التعبير، كما سعوا للمحافظة أيضاً على حرية المواطنين وحقهم في التنقل والذهاب الى أعمالهم ومنازلهم. لكن هذا الوضع فاقم الأزمة الاقتصادية كما انعكس سلباً على الوضع الأمني، وقد أدى الى ارتفاع معدل الجريمة بجميع أنواعها بعد أن كنّا حققنا تقدّما لافتاً في خفضه في العامين المنصرمين".
حكوميا، لفت عون الى أن "ولادة الحكومة كانت منتظرة خلال الاسبوع الماضي، ولكن بعض العراقيل حال دون ذلك. وعلى الرغم من اننا لا نملك ترف التأخير، فإن تشكيل هذه الحكومة يتطلّب اختيار أشخاص جديرين يستحقون ثقة الناس والمجلس النيابي ما تطلب بعض الوقت؛ فالمطلوب حكومة لديها برنامج محدد وسريع للتعامل مع الأزمة الاقتصادية والمالية الضاغطة، ومجابهة التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان وكل المنطقة. وسنبقى نبذل كل الجهود الممكنة للتوصل الى الحكومة الموعودة، مقدّمين المصلحة الوطنية العليا على أي اعتبار آخر.
أصحاب السعادة، إضافة الى كل الصعوبات الحالية، لا تزال أزمة النازحين تضغط بكل ثقلها على جميع الصعد في وقت لم يتحمّل المجتمع الدولي فعلياً مسؤولياته، لا في دعم العودة، ولا في دعم لبنان للتخفيف من تأثير هذا النزوح، فقدم بعض المساعدات للنازحين لم ينل لبنان منها الا القليل، مع كلام الإطراء للدور الانساني الذي يقوم به، وكلامٍ سياسي عن ربط العودة بالتوصل الى حل سياسي. لقد تفهمنا اسباب النزوح وقدّمنا كل ما يمكن من تعاون ومساعدة طوال سنوات، ولكننا اليوم لا نفهم المواقف الضاغطة لعرقلة العودة، ويحق لنا أن نرسم علامات استفهام كبرى تجاه هذه اللامبالاة الدولية، خصوصاً بعدما حملت معي هذه الأزمة الى جميع المنابر الدولية والعربية، شارحاً كل الأعباء والتداعيات المترتبة عنها على لبنان. ووسط كل هذه الأجواء الضاغطة، ثمة مؤشرات إيجابية نتوقعها في الآتي من الأيام مع بدء لبنان أعمال التنقيب عن ثرواته الطبيعية في مياهه الاقليمية، وهنا نجدد التأكيد على تمسكنا بحقنا في استثمار كافة حقولنا النفطية، ورفضنا لأي محاولة إسرائيلية للاعتداء عليها، وتشديدنا على ضرورة تثبيت الحدود البرية وترسيم البحرية، لما للأمر من فائدة على الاستقرار والهدوء، تأميناً لحقوق لبنان وللمناخ الاستثماري اللازم.
ورأى أن "قدر لبنان ورسالته أن يكون أرض سلام وحوار وتسامح، ولذلك وجب الحفاظ على الاستقرار والتعايش فيه، من هنا تمسّكنا بالقرار 1701 وبالقرارات الدولية والشرعية الدولية القائمة على العدالة والحق بتأمين استعادة حقوقنا وأرضنا ومنع التوطين في لبنان، وكذلك تمسّكنا بمبدأ تحييد لبنان عن مشاكل المنطقة وإبعاده عن محاورها لإبعاد نيرانها عنه من دون التفريط بقوة لبنان وحقه في المقاومة وقيام استراتيجية دفاعية تعزّز هذه الفرصة بالتفاهم بين كل اللبنانيين".
وختم عون: "إن لبنان يحيي هذا العام الذكرى المئوية الاولى لإعلان "دولة لبنان الكبير"، واني لواثق ان هذه المئوية ستشكل فرصة ملائمة، وسط جميع عوامل القلق وضبابية الرؤية، لإعادة اكتشاف دور لبنان ومكانته، واكثر: فرصة ملائمة لتجديد الالتزام من قبل جميع اللبنانيين بتحدي بناء وطن يليق بالإنسان وكرامته، ويرتقي الى ما منحه الله من عطية لأرضنا كي تكون رسالة، تتحقق بالفكر والعمل وارادة أبناء هذا الوطن." وفي ختام الحفل، اقيم حفل كوكتيل للمناسبة".