أغاني رمضان(1):
زياد سامي عيتاني*
شهر رمضان المبارك، هو أجمل الشهور، ينتظره المسلمون من عام إلى عام، حتى إذا ما جاء، إحتفلوا به فرحين صانعين له روحاً وأجواءً خاصة، لا نشهدها ولا يمكن الإحساس بروحانياتها وتجلياتها في غيره من الشهور.
ففي رمضان تكتسي الأرجاء ألواناً وزينة زاهية وحياة مفعمة وأضواءً متلألئة وأسواقاً مزدحمة، وجوامع عامرة تتلو مآذنها كلام الرحمن وترفع الآذان وتنشد المدائح رالإبتهالات...
وسط تلك الأجواء، لا يكتمل المشهد الرمضاني من دون أن تصدح الإذاعات والمحطات التلفزيونية، وقبلاً مكبرات الصوت في الساحات والأسواق بأغاني رمضان، التي رغم أن بعضعها يعود إلى أكثر من ستين عاماً، فإنها تبقى بإيقاعاتها وترانيمها ونغماتها في الشوارع والبيوت تعبر عن بهجة وفرحة رمضان، حيث أنه قبل حلول شهر الخير ، تبدأ المحطات التلفزيونية ببث تلك الأغاني الرمضانية التراثية تهيئة وإستعداداً وإحتفالاً بقدومه المرتقب والمنتظر، فتطرب النفوس قبل الأذان بسماع: "رمضان جانا"، "وحوي يا وحوي"، "مرحب شهر الصوم"، "أهو جه يا ولاد"، وسواها من الأغاني، وصولاً إلى أحدثها "علوا البيارق"، التي صارت جميعها مرتبطة بهويتنا وثقافتنا وذاكرتنا الرمضانية، وجزءاً لا يتجزأ من روحه ونفحاته وطقوسه، ليفوق عدد هذه الأغاني عدد أيام الشهر الفضيل...
فأغاني رمضان تعتبر أشهر ما قُدم في التاريخ الغنائي خلال سنوات زمن الفن الجميل. إذ تحمل كل أغنية شعور مختلف وأجواء مختلفة مع نفسيات أكثر إختلافاً لأجواء شهر كريم، حتى أن لكل مطرب وأغنية من تلك الأغاني تاريخاً خاصاً...
**
•غنيت بثلاث صيغ مختلفة:
أغنية "وحوي يا وحوي" تعتبر الأشهر والأقدم في تاريخ أغاني رمضان، وهي الأغنية التي تسبق حلول الشهر وتستقبله وتواكب أيامه ولياليه، ويرددها الصغار قبل الكبار...
وقد قُدِّمت أغنية "وحوي يا وحوي" لأول مرة سنة 1937 م بكلمات محمد حلمي المانسترلي وألحان وغناء أحمد عبدالقادر، ثم أعيد غناءها مرة أخرى بكلمات فتحي قورة وألحان أحمد صبرى وغناء هيام يونس من فيلم "قلبي على ولدي" إنتاج سنة 1953، ليتم غناءها للمرة الثالثة والأخيرة سنة 2009 بكلمات نبيل خلف وألحان وليد سعد وغناء محمد منير...
**
•الأغنية أقدم من صوم رمضان(!):
إن عمر كلمات الأغنية هي أقدم من شهر رمضان نفسه!!!
"وحوي يا وحوي إيوحا"... تعود معاني هذه الجملة إلى العصر الفرعوني من خلال "واح وي إيوح" وكانت الجملة تعني الترحيب بالملكة الفرعونية (إياح حتب) الملكة المصرية القديمة في نهاية الأسرة السابعة عشرة...
**
•تعدد الروايات، مع ترجيح فروعنية الكلمات:
فقد تمر عليك كلمات الأغنية مرور الكرام، إلا أنك عندما تتأملها تضبط نفسك متسائلاً عن معنى كلمة «وحوي يا وحوي»، وتنتابك المفاجأة عندما تعلم أن مطلع هذه الأغنية يعود للعصر الفرعوني، وتحديداً في زمن السيدة إياح حتب، زوجة الملك تاعا الثاني الذي حكم البلاد في أواخر القرن الثامن عشر قبل الميلاد، إذ كانت الدولة الفرعونية الوسطى تفككت واحتلها الهكسوس، فما كان من إياح حتب إلا تحريض زوجها على رفع راية العصيان في وجه الغزاة، لكنه توفي قبل أن يتحقق ذلك، فعمدت لابنها الأكبر ليستكمل مشوار أبيه، ولكنه مات أيضاً، ولم تهدأ عزيمتها إلا بدفع ابنها الثاني أحمس للمهمة، ونجح في طرد الهكسوس.
وبعد الانتصار الكبير الذي حققه الملك أحمس خرج المصريون في استقبال والدته الملكة إياح حاملين المشاعل والمصابيح يتغنون ب«وحوي يا وحوي إياحه» ومعناها «مرحباً يا قمر» تقديراً للتضحيات الكبيرة للملكة إياح التي قدمتها فداءً للوطن.
وفي هذا الإطار، يشير أثريون إلى أن المصريين القدماء كانوا يخرجون للترحيب بالقمر مطلع كل شهر، وكانوا يغنون "وحوي يا وحوي".
ويُقال أيضا إن عبارة "وحوي يا وحوي إياحة" تنتمي للغة القبطية، وتعني "اقتربوا اقتربوا لرؤية الهلال"، وهو أيضًا معنى مرتبط بشهر رمضان.
بينما قال إبراهيم أحمد إبراهيم صاحب موسوعة «أغنيات وحكايات»: هناك رأي آخر يرجع كلمات هذه الأغنية إلى العصر الفاطمي، نظراً لتشابه كلماتها مع أغنية تراثية يقول مطلعها: أحوي أحوي إياها، بنت السلطان إياها، لابسة القفطان إياها.
حتى الآن، لا توجد رواية مؤكدة عن سبب أو أصل التسمية، لكن الأكثر ميلاً للصحة أن لفظ "وحوي" الفرعوني، إنتقل عبر الزمن حتى وقتنا هذا.
ومع تطور الزمن، تطورت أساليب التهليل والترحيب بالشهر الكريم، وأضاف مؤلفو أشهر أغنية رمضانية لمسة لها من مصر المعاصرة، فأصبحت نغمة ثابتة للشهر الكريم نستمع إليها كل عام.
ومن هنا ارتبطت المشاعل التي تحولت إلى فوانيس مع مرور الزمان بتلك الأغنية التي تعتبر كلمات فرعونية انتشرت في العالم العربي، وتحولت إلى أغان لا نسمعها إلا مع حلول الشهر الكريم.
تلك الكلمات التي استنبط روحها الشاعر حسين حلمي المانستيرلي ليحولها لاحتفالية خاصة بقدوم الشهر الفضيل، عندما لحنها أحمد الشريف، وغناها أحمد عبد القادر للإذاعة المصرية.
**
•مغنيها يتنازل عن "أهلاً رمضان":
عندما فتحت الإذاعة أبوابها عام 1934، دخلها شاب صغير من محافظة الشرقية بنظاراته المُدوّرة وحيائه الريفي طالبا أن يكون جزءا منها، ليصير الملحن والمغني "أحمد عبد القادر" من أوائل من انضموا إلى الإذاعة المصرية في سنواتها الأولى.
حينها، كان يتم تخصيص خمس عشرة دقيقة لكل ملحن يختار فيها أغنيات ثلاث للبث. وقبيل مجيء رمضان في أحد أعوام منتصف الثلاثينيات، تقدم عبد القادر بثلاث أغنيات كان منها "وحوي يا وحوي" و"رمضان جانا"، رفض المسؤولون أن يقوم بغنائها جميعا، فاكتفى بـ "وحوي يا وحوي" وصارت "رمضان جانا" من نصيب محمد عبد المطلب.
بينما حلّقت "وحوي يا وحوي" بعيدا فوق صوت عبد القادر لتصل إلى كل المصريين ثم إلى سائر العالم العربي، بقي عبد القادر غير معروف سوى للقليلين.
في أيامه الأخيرة، دخل عبد القادر مرحلة من التصوف صار فيها مبتهلا في الإذاعة ومقرئا في أحد مساجد حي الحسين، ورحل بعدها في صمت وهدوء، مهديا لنا أغنيته الخالدة التي دخلت في نسيج ذكرياتنا جميعا.
**
أياً يكن تاريخ وأصل كلمات "وحوي.. يا وحوي...ياحو"، فإنها الأغنية التي تبشرنا بقدوم شهر رمضان المبارك وتهيئنا لإستقباله والإحتفال به ضيفاً عزيزاً منتظراً كل عام...
**
-يتبع: رمضان جانا.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.