14 أيار 2020 | 12:41

فن

أغاني رمضان(٢): "رمضان جانا" تُبشر بحلول الشهر الفضيل

أغاني رمضان(٢):

زياد سامي عيتاني*

رمضان جانا وفرحنا به،

بعد غيابه وبقاله زمان،

غنوا وقولوا شهر بطوله،

غنوا وقولوا،

أهلا رمضان رمضان جانا،

أهلا رمضان قولوا معانا،

أهلا رمضان جانا...

بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك،

وفى السنة مرة تزورنا وبنستناك،

من امتى واحنا بنحسبلك ونوضبلك ونرتبلك،

اهلا رمضان جانا قولوا معانا،

اهلا رمضان جانا...



إقترنت سمفونية "رمضان جانا" لسلطان الطرب الفنان الكبير محمد عبد المطلب بقدوم شهر رمضان من كل عام، والتي قادته الصدفة لغنائها، حتى صارت بمرور الأعوام أهم من بيان المفتي في الإعلان عن قدوم شهر رمضان، كما صرَّح عبد المطلب نفسه يوماً مع الإعلامي وجدي الحكيم، خصوصاً وأن المحطات الإذاعية والتلفزيونية لا تتوقف عن بثها لانها صارت أحد الطقوس المهمة للشهر الكريم...

تمخضت وإنسابت "رمضان جانا" من إمتزاج عبقريتين معاً: عبقرية اللحن الأخّاذ الذي تشد بدايته إليه الأذن شداً لصاحبه "محمود الشريف"، والعبقرية الثانية هي صوت محمد عبد المطلب الذي تتركز فيه كل جماليات الغناء الشعبي بأسلوبه المتميز، حتى إن عميد الأدب العربي طه حسين قد سمّاه "القاعدة المصرية للأغنية الشعبية"، ووصفه البعض بأنه صاحب طربوش مائل متمركز على رأس من طرب وذهب، وقال عنه آخرون إنه “شيخ مشايخ الطرب الشعبي الراقي”، وصاحب صوت متمكن قوي واضح النبرة، صحيح المخارج واسع المساحات.

وقد وصف النقاد أغنية "رمضان جانا" بمثابة "السلام الرسمي" لشهر رمضان، حيث تشعر فيها حتى لو كنت في القرن الحادي والعشرين، أن هذه الأغنية التي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي ستعبر عن أجواء شهر رمضان إلى النهاية...

**



 •أحمد عبد القادر يتنازل عنها لعبد المطلب:

ما لا يعرفه أبناء هذا الجيل الذي إعتاد أن يعيش نفحات رمضان على وقع أغنية "رمضان جانا" بصوت سلطان الطرب محمد عبد المطلب، بأن الفنان أحمد عبد القادر هو الأب الروحي لرائعة "رمضان جانا"، إذ هو من تنازل عنها لعبد المطلب، بعدما طُلب منه أن يغنيها، عقب الفشل الذريع الذي وقعت به عندما غناها فناناً مغموراً(!)، إذ أن الفشل كان مصير أغنية "رمضان جانا" حين ظهرت لأول مرة على الإطلاق بصوت المطرب المغمور محمد شوقي وألحان سيد مصطفى يوم الخميس 2 رمضان عام 1362 هجري الموافق 2 سبتمبر - أيلول عام 1943 م.

هذا ما دفع الشاعر حسين طنطاوي للجوء إلى أحمد عبدالقادر، الذي كان يعمل في الإذاعة المصرية كما أشرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة، عارضاً عليه أن يغنيها بصوته، علّ الأغنية تأخذ نصيبها من النجاح. وبما أن الإذاعة في حينه كانت ترفض أن يقوم مطرب واحد بغناء أغنية عن نفس الموضوع، تنازل عنها عبد القادر لصالح المغني محمد عبدالمطلب، الذي حلقت بصوته وأسلوبه إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه أغنية من نجاح على الإطلاق، لدرجة أنها ما تزال حتى يومنا هذا وإلى أن يقضي ألله أمراً كان مفعولاً "السلام الوطني" (النشيد الوطني) للشهر الكريم.

**



•ستة جنيهات أجر الأغنية:

ستة جنيهات فقط هي كل الأجر الذي تقاضاه محمد عبد المُطلب نظير غنائه لـ "رمضان جانا"، الأغنية التي وصلت حداً من الشهرة جعلت عبد المطلب نفسه يقول متندراً : "لو أخذت جنيها واحدا في كل مرة تذاع فيها هذه الأغنية لأصبحت مليونيراً.

**

•حاجة عبد المطلب للمال دفعته لتسجيلها:

ربما لم يكن عبدالمطلب ليقبل غناء “رمضان جانا” لولا الظروف التي أحاطت به، حيث كان توقيت الحرب العالمية الثانية سبباً في حالة عامة من الكساد، لذلك إضطرته حاجته إلى المال للقبول بغنائها، خصوصاً وأن معظم "الكازينوهات" قد أقفلت، ولم يعد هناك مجال رزق للفنانين سوى الإذاعة المصرية، فيأتون إليها ليختاروا كلمات المؤلفين، وبما أن "أغنية رمضان جانا" بقيت الوحيدة التى لم يخترها أي فنان، فأعجب بها عبد المطلب، وإختارها وسجلها في نفس اليوم لإحتياجه للستة جنيهات، علماً أن تسجيلها كلف عشرين جنيهاً.

**


•سر نجاح "رمضان جانا":

ولكن ما السر الكبير وراء خلود الأغنية بهذه المساحة الإستثنائية، رغم إنتاج عشرات الأغاني في نفس الإطار؟ هل هو صوت عبد المطلب؟ هل  في الكلمات؟ هل هو  اللحن؟ هل الحالة الروحانية الشجية التي صنعتها  الأغنية وتفاعل صوت عبد المطلب مع اللحن والكلمات؟

في الواقع الإجابة على هذه التساؤلات أقرب إلى الإستحالة، لأنه نجاح الأغنية بمثابة سر الأسرار! لكن لا شك أن كل هذه العوامل والمؤثرات مجتمعة كان لها المساهمة المباشرة في أن تبقى "أوبريت" رمضان...

فالكلمات صاغها حسين طنطاوي مباشرة وليس بها خيال شعري، لكن ما منحها كل هذا الإنتشار لتستقر في قلوب الناس على مدى الأجيال المتعاقبة، هي الحالة الشعبية التي نسج بها الموسيقار العبقري محمود الشريف اللحن، ومن خلالها توهج صوت عبد المطلب.

كذلك لربما حب عبد المطلب لتأدية صلاة الفجر والعصر في مسجد الإمام الحسين في رمضان (كما كشفت إبنته)، وإرتباطه الكبير بحي الحسين العريق في القاهرة، وإقامته للأمسيات الرمضانية، جعله يؤديها بكل جوارحه وأحاسيه الوجدانية. وهذا ما يفسر أدائه المميز لأشهر أغنية رمضان على الإطلاق، (كذلك نجاح أغنيته "حبيبي ساكن في الحسين" ينطبق عليه تفس التفسير).

**



•طريقة مميزة في تحية الجمهور:

ومما لا شك فيه أن شخصية محمد عبد المطلب الفنية والجماهيرية لعبت دوراً كبيراً في نجاح "رمضان جانا" على غرار باقي أغنيه ذات الطابع الطربي الشعبي. فالأداء والغناء عند عبد المطلب اللذان تميزا بتلقائية كبيرة، جعلته يلغي الحاجز مع الجمهور، وبثقة عالية في النفس، ومن دون أي إحساس بالغرور والتعالي.

وهذا ما يؤكد ثقة المطرب العارف بالأصول الطربية، وبطاقته الصوتية المسنودة بالصدق. وإتقان أدائه الذي تميّز بالبساطة ونزع الكلفة وجودة الأداء، ورقّة الإحساس، وفي تواضع وعفوية استثنائيتيْن.

وهذا ما كان يعبر عنه عبد المطلب في طريقته الفريدة بتحية الجمهور المعجب بأدائه، والمتمثلة في إبتسامة جادّة، مرحة، وجدية، وغير متملقة وتحياته موزّعة بين الجمهور والفرقة الموسيقية. كما كانت له تحية شعبية عبر البسمة الدائمة وطأطأة الرأس، وتوصيل تحيات الشكر بطريقة لافتة للفرقة الموسيقية وللجمهور الحاضر على لطف التجاوب والانسجام.

**

•تصويرها مرتين:

‫كذلك، فإن تصوير الأغنية تلفزيونياً شكل عاملاً مكملاً لنجاحها الباهر وإنتشارها الواسع، وتحولها إلى "أيقونة" سمعية ومرئية لشهر رمضان.‬

‫فقد صورت الأغنية مرتين، مرة في الستينيات بالأبيض والأسود، حيث إرتدى عبد المطلب جلباب الفلاح، وخلفه فتيات يرتدين ملابس الريفيات، ويغنين بصحبة الفوانيس.‬

‫ومع نجاح الأغنية تقرر تصويرها مرة أخرى في الثمانينيات بالألوان وبمشاهد خارجية في الشارع المصري.‬

‫**‬



•"الفيديو كليب" جسد مشهديتها:

إذن في أوائل الثمانينيات أنتج التلفزيون المصري "فيديو كليب" ثانٍ لأغنية "رمضان جانا"، حيث صورت مشاعده في أحياء القاهرة القديمة المتواضعة، ملتقطة ملامح الناس البسطاء أثناء تجوالهم في الشوارع أو عملهم بها، من "الكنفاني" الذي يدور أمامه قرصه المتحرك، إلى الأطفال الصغار في لهوهم في الشارع ممسكين الفوانيس الصغيرة المُلوّنة، وفي الخلفية، صوت عبد المطلب يشدو: "رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان.. غنوا وقولوا شهر بطوله، غنوا وقولوا أهلا رمضان".

**

•تعديل النسخة الأولى:

لقد خضعت أغنية رمضان جانا للتعديل بعد إذاعتها، لأسباب وصفت بأنها إجتماعية وفنية، دون أن يلحظ أحداً التعديل الذي أدخل على الأغنية.

كانت "الكوبليهات" المحذوفة من أغنية رمضان جانا هي:

بالليل نولع قناديلك والشمع يقيد، والليل بطوله نغنيلك ونقول ونعيد،

وندور على بيوت أصحابنا،

نملى جيوبنا من أحبابنا،

من العصر نستنى المدفع وودانا معاه،

من ساعة ما يلعلع في الجو صداه،

والأكل قدامنا محمر مشمر،

رمضان جانا أهلاً رمضان...

فدخول الكهرباء إلى الريف المصري إستوجبت "كوبليه": (القناديل وبيوت الأصحاب) للحذف، فلم يكن من الملائم أن تذاع بعدما دخلت الكهرباء كل البيوت المصرية. أما تعديل "كوبليه": (من العصر نستنى المدفع...) فإن ضرورات الإنتاج التفلفزيوني إقتضت ذلك.

**



"رمضان جانا" بكلماتها البسيطة، ولحنها المليئ بالبهجة والشجن، وصوت مطربها الخالد، لا تزال المبشرة بحلول الشهرة الكريم، والمرحبة بقدومها، والمصاحبة طيلة أيامه ولياليه في الإذاعات والتلفزيونات، في الحارات والمناطق الشعبية، في البيوت والمحلات والأسواق، يرددها الصغار والكبار فرحين مسرورين؛ حتى باتت الأغنية بكلماتها وألحانها وأدائهاً سجلاً رمضانياً ذهبياً، لن تتمكن السنين من جعله قابلاً للنسيان...

وليبقى معها محمد عبدالمطلب، الذي حفظ القرآن الكريم كاملًا، وعمل على إنشاده منذ الصغر، إلى جانب إهتمامه بسماع أسطوانات الأغاني لكبار مطربي وقته من خلال تردده على بعض المقاهي التي تمتع روادها بها، يبقى صاحب البصمة الصوتية الأشهر والأبقى على الإطلاق فى شهر رمضان الكريم...

-يتبع: أهو جه يا ولاد.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

14 أيار 2020 12:41