20 أيار 2020 | 12:01

منوعات

تراث رمضان:"الحكواتي".. نجم السهرات الرمضانية في المقاهي الشعبية

زياد سامي عيتاني*

يا سادة يا كرام، ما بيحلى الكلام إلا بعد الصلا على النبي العدنان...

"الحكواتي" شخصية جسدها كثيرون على مدى عقود من الزمن.. فالحكواتي مهنة عرفتها بيروت ومدن الشام ومصر والعراق، وإنتشرت في مقاهيها منذ القدم وحظيت بشعبية كبيرة فكانت جزءا من التراث الشعبي ووسيلة للترفيه وتكريس القيم التي تحلى بها أبطال القصص والروايات، المرتبطة بالأدب الشعبي المتوارث من جيل إلى جيل، حيث أنه يتكون من حكاية وسيرة وفزورة وشعر وفكاهة..

**


•تسميات متعددة:

ويعود ظهور "الحكواتي" إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان الناس يعتمدون أسلوب التواتر الشعب يفي تداول الأحداث التاريخية وسرد السيرة النبوية وسمي "الحكواتي" بعدة أسماء وإختلفت تسمياته من بلد إلى آخر ففي تركيا دُعي (المكلا) وفي الجزائر والمغرب العربي (القوال) وفي العراق (المحدّث) وعلى سواحل الأطلسي الوسطى (إيميادزين) وفي إيران (النقال) أو (التقليدجي). وعند شعوب أفريقيا الغربية (هريوت) إنه (الحكواتي) كما يُعرف في مصر وسوريا ولبنان الذي كان مظهراً من مظاهر الفرجة الشعبية.

**

• دخل بلادنا مع الحكم العثماني:

إن "الحكواتي" بدأ ملامحه الحالية في بلاد الشام إبان الحكم العثماني وهو قاص شعبي يجلس على كرسي عال في صدر المقهى ويروي قصصاً إجتماعية أو سياسية ناقدة مترافقة بأساليب التعبير بنبرة الصوت أو حركة اليدين أو تعابير الوجه.

فالقاص فنان يجيد الإلقاء والحركات التعبيرية ويتأثر بالكلمة والحادثة التي يقرؤها فيعشيها ويعبر عنها من خلال إعادة الحكايات الشعبية مثل "سيرة الف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" و"الهلالية" و"عنترة بن شداد" و"سيف بن ذي يزن" و"الظاهر بيبرس" وغيرها.

**

مهارات الحكواتي:

يمتلك الحكواتي مهارات وفنوناً لا يملكها إلا الممثّل المحترف، إضافة إلى الخيال الواسع والقدرة على التجسيد والفهم الدقيق والقراءة والتأويل والتفسير للقصص، وعدم روايتها وقراءتها بشكل مباشر، بل يضيف إليها ويفسر ويعطي الكثير من الدلالات، من خلال أدائه والتلوين في الصوت والتحضيرات، ويمكنه استثارة همم الموجودين وجذب انتباههم وهم يحتسون الشاي أوالقهوة أو الأعشاب وإيقاف أي حوار جانبي.

يلتفت جميع الحاضرين إلى الحكواتي، وهو يستعين بالأدوات التي تحمل مضامين ودلالات، منها الدروع والسيوف وبعض الكتب في تجسيد الموقف نفسه، مثلاً عندما يتحدث عن ملحمة لسيف بن ذي يزن أو عنترة بن شداد، يصدر أثناء دخوله المعركة الأصوات ويرفع السلاح ليعطي أجواء الحدث، وإذا تحدث عن قصص ومآسٍ، يعطي الجانب النفساني والحزين من خلال الصوت.

**

إرتباط الحكواتي بالمقهى:

شكخصية الحكواتي مرتبطة بالمقاهي القديمة، حيث كان يروي قصصه أمام حشد من الرجال كانوا يؤلفون حلقة حوله، في حين يكون جالساً على مصطبته المرتفعة عن باقي أرضية المقهى. كان يدخل حاملا كتابه الذي يفتحه أمامه ولكن نادرا ما ينظر إليه ليقرأ فيه، لكونه يعرف قصته عن ظهر قلب، لكثرة ما رواها. يراه الرجال الجالسون في المقهى، فيتركون طاولاتهم، ويتجمعون حوله لسماع قصته، أو باقي قصته التي كان قد بدأها في الأيام السابقة.

ثم يبدأ بسرد الرواية، أو الحكاية، التي غالباً ما تكون عن شخصية تاريخية بطولية، تدور جميعها عن البطولة والشجاعة والشرف ونصرة المظلوم. وكان، في نهاية كل حكاية، ينتصر الخير الذي يمثله بطل الرواية، على الشر.

ويبقي الحكواتي جمهوره في تشوق دائم لمعرفة وقائع القصة، فيحرص على أن تنتهي أحداث القصة كل ليلة بموقف متأزم، والبطل في مأزق، حتى يحمّس السامعين لسماع بقية الأحداث وكيف سيخلص البطل نفسه من المأزق، في اليوم التالي.

**

بطل السهرات الرمضانية:

في العصر الحديث، كان "الحكواتي" يلقى حضوراً مميزاً خلال شهر رمضان المبارك وتحديداً في المقاهي الشعبية، لا سيما مقاهي عسور في وسط بيروت، ولاحقاً في مقاهي البسطة، ومن ثم في عدد من مقاهي المناطق الشعبية . فبعد صلاة التراويح يعج المقهى بالرواد الذين يدهشهم هذا النوع من التراث الشعبي، وهنا يظهر "الحكواتي" بزيه التقليدي المعروف والمؤلف من السروال والتسرة المطرزة على الطريقة الشامية واضعاً الحزام التقليدي العريض، وعلى رأسه الطربوش، ويتخذ مكانه على كرسيه في صدر المقهى وبيده سيف طويل، ويستهل بالصلاة على النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، فيسود الصمت، وتتجه الأنظار نحوه، ثم يبدأ حكايته أو فصلاً منها، مستخدماً كل مهاراته في الإلقاء، وتقمص الشخصية ورفع الصوت أو خفضه، محركاً يديه بما يعبر عن الحدث، وأحياناً يرفع السيف ويهوي به على الطاولة عندما يكون مشهد الحكاية معركة حربية. ولا يوفر قدميه، فهو يضرب بهما الأرض بما يتناسب مع صيرورة الحكاية التي يرويها، مما يزيد من تشويق الحاضرين، وشد انتباههم.

"فالحكواتي" يتحكم بالسيناريو، وهو الممثل والمخرج والمنتج معاً، وهو الذي كثيراً ما يخرج عن النص، ليداعب الجمهور بحوارات جانبية.

**


مواقف طريفة في مقاهي بيروت:

كانت تصاحب سهرات "الحكواتي" في المقتهي طرائف كثيرة، كما أنها لم تكن تخلو من بعض الإشكالات أحياناً، بسبب "التزريك" بين الساهرين الذين ينقسمون لقسمين، إنحيازاً لهذه الشخصية أو تلك.

ومن الطرائف التي كانت حصلت قديماً للحكواتي، حسبما يشير المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري أنه حينما كان يتوقف "الحكواتي" في نهاية السهرة عن موقف حرج يتعرض له البطل، كي يشد الجمهور لمتابعة الحكاية في اليوم التالي، أنه صدف أن توقف مرة عند أسر عنترة بن شداد وزجه في السجن، بعد تكبيله بالحديد والأغلال، وبعد ذهاب "الحكواتي" إلى منزله، ومغادرة الحاضرين، صعب على أحد الحضور الذين يهيمون بعنترة، أن يبقى الأخير سجيناً، وألا يعرف مصيره إلاّ في اليوم التالي، وعندما ذهب إلى بيته لم يستطع النوم، وكبرت القصة في رأسه، فذهب إلى منزل "الحكواتي"، وأيقظه، وهدده بالقتل، إن لم يُخرج عنترة من السجن، ويفك قيوده هذه الليلة، فاضطر "الحكواتي" أن يقرأ عليه وحده، حتى وصل إلى لحظة إطلاق سراح عنترة. ويروى أيضاً أنه عندما يصل "الحكواتي" إلى زواج عنترة من عبلة كان عشاق عنترة يقومون بتزيين الحي وقرع الطبول وتوزيع الحلويات والسكاكر.

**

•تشويه للحكواتي:

غير ان ما قد نراه اليوم من "حكواتية" في المقاهي هم بعيدون كل البعد عن معنى الحكواتي الفعلي، ومهنته التي كان يتقنها ولا يتقن غيرها. هو أشبه بالمسرح، ما قد نجده اليوم في المقاهي، وهو تقليد لمهنة الحكواتي التي زالت منذ سنين عدة.

هؤلاء الذين يأتون لرواية القصص في المقاهي الحديثة، يؤدون دورا واحدا، وشخصية واحدة، هي شخصية الحكواتي، كما كان الحكواتية الأصليون يؤدون ادوار شخصيات قصصهم، كعنترة أو الملك الظاهر أو أبو زيد الهلالي وغيرهم. الحكواتي أصبح سياحيا، فولكلوريا، ورمزيا.

**

أصبح الحكواتي شخصية من قصص الحكواتية، التي كانت دائما تتحدث عن الماضي، وعن عصور انقضت، وعن أبطال ضاعوا بين الحقيقة والخيال، وبين الحلم والواقع...

**

-يتبع: توحيش رمضان

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.



يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

20 أيار 2020 12:01