لم يكن من قبيل المصادفة اختيار رئيس مجلس ادارة مؤسسة شرقي للإنماء والابتكار الثقافي سعيد باشو كلمة " REVIVAL" أو " احياء " عنواناً لمعرض أعمال الفنان البريطاني العالمي توم يونغ في حمام الجديد التراثي في قلب مدينة صيدا القديمة الذي يعود تاريخه الى القرن الثامن عشر ويقع في قلب صيدا القديمة والذي اعادت المؤسسة ترميمه وافتتح العام الماضي بعدما بقي مخزونه التراثي والثقافي طيلة عقود طويلة متوارياً خلف ما راكمته تلك السنين من انكفاء للناس عنه واستخدام للمكان بغير وظيفته ومن احداث الحقت به اضراراً فزادت في طمس معالمه الأساسية وقيمته التراثية قبل ان تعيد مؤسسة شرقي بمبادرة من رئيسها ومالك المبنى نفض الغبار عن جوهرة هذا المعلم ليستعيد توهجه واستقطابه للسواح والزائرين في شهر رمضان من العام 2019 .
من هنا كان " الإحياء" بالنسبة لباشو هدفاً لا يقتصر بطبيعة الحال على حمام الجديد وحده باستعادة وظيفته كمعلم تراثي وتحويله مركزاً سياحياً وثقافياً ، بل كان ايضاً إحياءاً لمحيطه من خلال ما يستقطبه من حركة زائرين وسائحين من لبنان وخارجه وما يمكن ان ينتج عن هذه الحركة من نشاط اقتصادي واجتماعي يساهم بها مع غيره من المعالم التراثية الموجودة في احياء المدينة القديمة وابراز قيمتها التاريخية وميزتها كواحدة من اقدم المدن التي لا تزال نابضة بالحياة .
ولأن ثمة رابطاً قوياً بين الإحياء والإبداع تحولت صدفة لقاء باشو مع الفنان البريطاني يونغ في معرض للأخير خارج صيدا وزيارته لاحقاً لحمام الجديد في المدينة القديمة الى حافز لكلا الرجلين للتحضير حينها لعمل يكمل ما بدأه كل منهما ، كل في ميدان شغفه ، ليكون مزيجاً بين الابداع والإحياء في آن ، فكانت فكرة معرض لوحات يرسمها يونغ من وحي معايشته لصيدا القديمة ومعالمها واحتكاكه بناسها انطلاقاً من حمام الجديد وما بقي عالقاً في ذاكرة كبار السن حوله ...
لكن وفي غمرة انغماس الرجلين في التحضير للمعرض الذي كان مقررا افتتاحه اول مرة اواخر العام الماضي ، جاءت تداعيات ثورة 17 تشرين لتؤجل المعرض ، ثم أجّلته ازمة كورونا مرة ثانية ، وكان التأجيل الثالث بعد انفجار مرفأ بيروت الذي شاءت الأقدار ان ينجو منه يونغ لتواجده الدائم حينها في صيدا تحضيرا للمعرض إذ طال الدمار المنزل الذي يقيم فيه في الجميزة والاستديو الخاص به في الجعيتاوي ..
فرضت تلك الأزمات ومعها الأزمة الاقتصادية وانعكاسها سلباً على الحياة اليومية للمواطنين حالة من الجمود والشلل في نبض الحياة السياحية والثقافية في لبنان وفي مدينة صيدا وتحديدا المدينة القديمة . شكلت فكرة المعرض في ظل هذه الظروف ايضاً محاولة احياء لمدينة تحتضر ، ونافذة ضوء تكسر رتابة الظلمة المخيمة نتيجة الأجواء السياسية والاقتصادية والصحية السائدة ، فيما شكّل تأجيل المعرض ثلاث مرات ، مساحة زمنية اضافية لتطوير فكرته ليس فقط على صعيد مواضيع اللوحات التي يرسمها يونغ خصيصاً للمعرض ، بل وايضاً لإضافة فكرة التوثيق لتاريخ حمام الجديد وتاريخ صيدا القديم وتدعيمها بشهادات من بعض من عايشوا هذا المعلم التراثي قديماً لعرضها بالصوت والصورة بالتزامن مع المعرض واعداد برنامج انشطة ثقافية وفنية وتراثية منوعة ترافق يومياته الممتدة على نهاية العام الحالي (عروض لأفلام وثائقية وحفلات موسيقية وعروض مسرحية ومحاضرات تاريخية في الموقع). كما سيكون حمام الجديد ايضا موقعا للتعليم عبر سلسلة من ورش العمل الفنية لتلامذة المدارس المحلية وطلاب الجامعات والأيتام والأطفال اللاجئين، بقيادة توم يونج نفسه.
باشو
يقول مؤسس ورئيس مجلس ادارة مؤسسة شرقي للإنماء والابتكار الثقافي سعيد باشو ان "من اسباب اصرارنا على اقامة هذا المعرض واختيار عنوان المعرض " REVIVAL" تحديدا ان نبعث برسالة ايجابية وبارقة امل في هذا الجو المظلم والسلبي الحالي بسبب الظروف الصعبة الاقتصادية والمعيشية والصحية التي يمر بها البلد . وعندما اخترنا الاسم اعتبرنا اننا نعيد احياء المكان نفسه ولكن ايضا نعيد احياء المجتمع المحيط بالحمام اي صيدا القديمة ونطلق صرخة ايجابية بأننا نستطيع ان نبدا من جديد ونحيي الأمل بأن غدا يمكن ان يكون احسن ونعيد احياء النشاط الثقافي والسياحي والتراثي في المدينة ونشجع الدورة الاقتصادية قدر المستطاع من خلال جذب الزائرين والسواح والمهتمين بالتراث الى المدينة ، وهو ما عبر عنه حجم الاقبال على المعرض حتى الآن خاصة من خارج صيدا وليس فقط من داخلها . وبالنسبة لنا هذا واحد من اهداف مؤسسة شرقي وهو استقطاب حركة ثقافية سياحية تراثية داخل المدينة ".
ويضيف " ونظرا لإستمرار ازمة كورونا ، حرصنا على ان يستمر المعرض لفترة طويلة حتى نهاية العام الحالي ( 31 كانون الأول 2020 ) لنراعي الظروف الصحية ولا يكون هناك ازدحام واتاحة الفرصة لأكبر عدد من الأشخاص لزيارة المعرض ضمن شروط السلامة العامة . مثلاً في ليلة الافتتاح اكثر من 75% من الحضور كانوا من خارج صيدا ، وهذا شيء يكبر القلب ، ونصف من جاءوا من خارج صيدا يزورون صيدا للمرة الأولى وهم من مناطق لبنانية مختلفة . وبالتالي فإن وجود توم يونغ كفنان عالمي يعيش في لبنان وبدعم من السفارة البريطانية والمركز الثقافي البريطاني هذا يعطي الحدث طابعا عالميا وايضا يشجع زوار عالميين على ان ياتوا ويزوروا صيدا ليروا هذا الحدث . كما اننا نقوم حالياً بإعداد برنامج للتفاعل مع المعرض عن بعد هو عبارة عن جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد تتيح لمن لا يستطيع الحضور ان بعيش هذه التحربة" .
وييشير باشو الى أن " كل ما نقوم به هدفه احياء صيدا لأنها مدينة فيها امكانيات بشرية و طاقات ثقافية وسياحية مهمة ، ودفع عجلة اقتصادها ولو بالامكانيات المتوافرة . فعلى سبيل المثال كل العاملين في مشروع المعرض او في اي مشروع آخر قمنا او نقوم به هم من صيدا " النجار والدهان والكهربائي والسنكري وغيرهم " وهذا كان جزء من هدف مؤسسة شرقي ان نشغل الطاقات المحلية . ونحن نفتخر بان هذا المعرض مشغول ان كان بتحضيره وتنسيقه وصنع كادرات اللوحات والمطبوعات التي اعدت له والافلام الوثائقية المرافقة له ونظام الصوت وغيرها انجزت بطريقة احترافية عالمية لكن بطاقات محلية، مائة بالمائة لبنانيين واغلبيتهم من صيدا ، وهذا شيء يكبر القلب ".
وعن الخطوة التالية ما بعد معرض " إحياء " يقول باشو ان " هذه الخطوة بدأنا التفكير بها في اليوم التالي لإفتتاح المعرض . والتحدي بالنسبة لنا هو ان نقوم بعمل اضخم ، واقول تحدي لأننا بهذا المعرض وضعنا سقفا عالياً لمستوى اي عمل سنقوم به في المستقبل وهذا يحتاج منا اخذ الوقت في التفكير بالخطوة التالية حتى تأتي افضل ويكون لها وقع اكبر ان شاء الله وهذا ما نعمل عليه حاليا لنعد خطتنا كمؤسسة للعام الـ2020 ".
توم يونغ
في محترف صغير في احدى غرف حمام الجديد يواكب الفنان البريطاني توم يونغ حركة زائري المعرض وهو يتابع رسم بعض لوحاته ، فيرصد في عيونهم وانطباعاتهم لحظات الاكتشاف الأولى لمواضيع اللوحات الـ70 المعروضة ويزودهم بما يشبه " سيرة ذاتية " عن كل لوحة ، ويجيب على اسئلتهم واستفساراتهم عنها ، تحملهم مواضيعها المستقاة من تاريخ صيدا القديم والحديث في جولة ممتعة على بعض معالمها التاريخية ومن بينها حمام الجديد الذي تماهت بعض لوحات يونغ عنه مع غرفه وجدرانه وادواته ، وعلى بعض العادات القديمة مع الحمام التقليدي ، وعلى احداث مرت على لبنان خلال عام ونصف العام شكلت عمر المعرض منذ انطلاق فكرته ومحور العديد من لوحاته مثل ثورة 17 تشرين وكورونا ومشاهدات من الحياة اليومية للمدينة.
يقول يونغ ان تجربته مع حمام الجديد ومع صيدا القديمة كانت ممتعة ، وانه وجد فيها مصدر الهام قوي لرسوماته . ويضيف انه "سعيد بهذا التعاون مع مؤسسة شرقي ورئيسها الصديق سعيد باشو الذي اتاح لي هذه الفرصة لأكتشف كنزاً ثميناً اسمه صيدا القديمة واساهم في اعادة ابراز وتشكيل التراث ونبش الصور الصيداوية الجميلة والقديمة الرائعة من ذاكرة الكبار خاصة حول حمّام الجديد وتسليط الضوء مجددا على العادات التي كانت متبعة خلال استعمال الحمّام التقليدي القديم من ابناء المدينة القديمة ".
معرض "RIVIVAL" في حمام الجديد في صيدا القديمة يستمر حتى 31 كانون الأول 2020 يومياً من الساعة الحادية عشرة صباحاً وحتى السابعة مساءً .
رأفت نعيم
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.