"النهار" – باسم السبع
رحيله رسالة مؤلمة لكل من صادقه وشاركه رجاحة عقله وسعة صدره وصفاء سريرته وحلاوة روحه وطيب أحاديثه التي لا تشبه سواه ..
لِمَ أسرعت الرحيل يا جان . لم تستأذن الأهل والأصدقاء ورفاق العمر من كل الأعمار والأقطار ، ولم تبادر للاتصال على جري عادتك ، تسأل عنا وترمي علينا تحية شوق أو عتاب مشفوعاً بقولٍ مأثور أو آية من آيات الرحمن ، مسبوقة بأبياتٍ للمتنبي وأبي العلاء .
يقال ان اليأسَ احدى الراحتين ، لكنك اخترتَ الموت على اليأس ، وأعلنت الإنسحاب في أصعب الأوقات وتركتنا نجتّر الأزمات والمرارات والتفاهات ، لنسجل رقماً قياسياً عالمياً في سباق الجري نحو الهاوية .
هل هالك ما حلَّ بمدينتك ، مربض الصبا والصداقات ، حبيبتك طرابلس ، وأدركت العجز عن نجدتها بكلمة فسارعت الى الصمت الأبدي ، ام انك وجدت الموت مخرجاً من حلبات الجنون السياسي ، حيث تزدهر تجارة المذاهب والأديان ، ويتحول الدستور الى ميدان يتسابق فيه العرجان على الصلاحيات وكرسي الرئاسة الاولى .
عاصرتَ ورافقتَ كل العهود والرئاسات والزعامات ، لكنك قررت مغادرتنا قبل ان يغادرنا “ العهد القوي “ ، وقد انقلب على شعب لبنان العظيم وتفنن في معاقبة نفسه نكايةً بخصومه ، واستنزف قوته وهيبته وشعبيته كرمى لعيون وريث ٍلن يرث عنه الا الخراب وفتات زعامة على شفير الاحتضار .
حياتُك كلها مختبر لتجارب استيلاد الأمل من اليأس ، والوحدة من الإنقسام ، والانفتاح من الانعزال ، والحكمة من بطون الهزائم والنكسات والمرارات الوطنية والقومية .
لم تستسلم لكبوة أو غرور أو فتنة او رشوة أو وشاية سياسية . رفضت الرئاسة بعد الطائف ، لانها قُدمت اليك فوق طبقٍ من دماء وإنتقام ، وأدركت في كل المراحل ان رئاسة لبنان تتطلب قوة الحكمة والحِجة والحوار والتوافق والاعتدال وبناء الجسور ، وقوة التواضع والغفران والمشاركة والشورى وبسالة الاعتراف بالآخر .
جان عبيد، لأي جائحة رفعتَ فجأة الرايات البيض. ولمن أخليت الساحة، وتركت البلاد نهباً لأوهام غِلاظ الدم والعقل والروح، وساحة للنافخين في رماد الفتن والعصبيات وفلول القتلة والجهلة وصبيان الطائفة وديكها المتصارعين على قيادة الجمهورية المهترئة ؟
نجوتَ من الخطف ومحاولات القتل وفصول الحرب وكمائن أهل الغدر ومخاطر العبور على خطوط التماس . فأنى لك ولنا ان نحمي أنفسنا من غدر الصدفة على قاعة الاختلاط الانساني ؟!
لم تتقبل فكرة التباعد وقطع السبل للتواصل والتلاقي وتلبية الدعوات وعقد الجلسات ، لأن حياتك كلها ابواب مفتوحة على الحوار والتقارب والتفاعل، وموائد عامرة بما لذ وطاب من تبادل الأفكار والتجارب والقصائد والثقافات وخزائن الحكمة .
قلة يعيشون لبنان كما عشته، ويعرفون العروبة كما عرفتها، ويمارسون العيش المشترك كما مارسته .
اتخذت من القرآن والانجيل سلاحاً لمقارعة التطرف والتعصب وشذاذ الطوائف ، فكنت لسان محمد عند اتباع يسوع ولسان المسيح عند اولياء الرسول .
شبكة العلاقات والصداقات التي بنيتها طوال عقود، متصلة بحبال الود والكرم والنبل والصفح والنصح والصدق والثقافة والادب السياسي .
قطعوا عليك طريق العبور الى بعبدا غيرَ مرة، لكن سيرتك منحتك الفخامة من دون رئاسة ، والهيبة من دون سلطة ، والاحترام من دون جهد .
نشأتك العروبية صهرت رؤيتك لرسالة لبنان، فرأيته دائماً بعيونٍ عربية بعيداً عن ثقافات الذوبان والابتلاع ووضع اليد، وقرأت العرب بعيونٍ لبنانية صافية لا يكدرها غبار طائفي وحزبي أو ولاء خارجي يجنح لتغليب مصالح الاقليم على المصلحة الوطنية .
تألمت لمآسي سوريا والعراق واليمن وليبيا ، كما لو انها امتداد لمأساة لبنان . لكن الوجع على سوريا كان مضاعفاً ومدعاة للقهر والخيبة والخوف على لبنان ، واختزلته بعبارة عميقة الدلالات: حافظ الاسد جعل من سوريا لاعباً بارعاً في الساحات العربية والدولية، وبشار الاسد حوّل سوريا الى ملعب تتبارى عليه القوى الاقليمية والدولية .
كنتُ ممن يعتقدون يا جان، انك محصن بأسلاك الإيمان وهي كافية لحمايتك من شرور السياسة وحسد السياسيين، وان صدرك تحيطه الآيات والأيقونات المباركة، وتقيم بين أضلعه ليل نهار آية الكرسي وصورة السيدة مريم وكف فاطمة والأدعية التي أحضرتها لبنى من مار شربل وسيدة بشوات وشفيعة الامور المستحيلة القديسة ريتا .
حتى الايمان ودروع الاديان تحتاج لأحزمة أمان وأقنعة واقية من شرور هذا الزمان ، سيما واننا في بلد تتحالف فيه لعنة كوفيد لاصطياد الناس وتقييدهم بأصفاد الهلع ، مع لعنة قابيل لتفتيت الدولة وبهدلة الجمهورية واحتقار الدستور .
لبنانك يرحل يا جان. والحزن يقيم في بيوتنا. الزمان ليس زمانك والجمهورية صارت قاطرة للفشل والإنكار والتعطيل والانقطاع عن المحيط والعالم .
إنه زمن التيه والغربة والرحيل، وها انت تتقدم صفوف الراحلين. يصعب علّي مخاطبتك فقيداً ... فهل نقول الى اللقاء ؟ .
الكوفيد أنشأ خطوطاً سريعة للموت وفرض الاقامة الجبرية في البيوت. اعلن شرعة جديدة للحياة البشرية واقفل بيوت الله أمام المؤمنين ... ليقطع علينا المشاركة في وداع الأحبة .
عزيزي جان، لم نعد نملك سوى العزاء عن بُعد، نحتفظ في صدورنا بغصة الفراق، ودعاء بجميل الصبر للعزيزة لبنى، السيدة التي حاولت ان تفتديك فأخلت سريرها لك ... لعل وعسى، وللعائلة التي اكتسبت منك براعة الحكمة وقيم الحرية والوفاء والانفتاح ومجد الكلمة الطيبة .
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.