———-باسم السبع
مات طلال سلمان مقهوراً . امضى عمره " على الطريق " ، شاهراً قلمه في وجه المستحيل ، مقتحماً وعورة المسالك الى الاحلام الصعبة والرهانات المعقدة .
استنفد طاقة البحث عن باقة كبيرة من الاحلام ، آلت جميعها الى السقوط دون ان تسقط قناعاته بجدوى تحقيقها والوصول اليها مهما امتدت مسافة الطريق .
ولد طلال سلمان على باب النكبة . بينه وبينها عشر سنوات فقط ، كانت كافية كي يتعرف على فلسطين . نشأ في كنف الظلم الذي لحق بشعبها والهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية العام ١٩٤٨ ، ومواكب النزوح نحو لبنان والبلدان المجاورة .
منها بدأ حلمه الاول بالسير على طريق العودة واستعادة الوطن السليب من اليهود الذين تجمعوا من أصقاع الدنيا لاسترداد المجد التائه لشعب الله المختار . وفلسطين لم تكن مجرد كيان ضائع . صارت مرصداً لضياع الامة وقادتها وانظمتها وتحوّلت الى ولاّدة احلام وعقائد واحزاب وثورات وانتفاضات واغتيالات وحروب اهلية وانقلابات عسكرية وتسويات وخيانات ، تشكلت منها تضاريس السياسات العربية والانظمة المتصارعة على جنس التحرير .
مشى طلال سلمان الطريق بطولها وعرضها ، من نكبة فلسطين في اربعينات القرن الماضي ، الى نكبة العراق في اواخر الثمانينات ، وتوالت النكبات تقطع امامه سبل الوصول الى الاحلام العظيمة … فمات مقهوراً .
لم يبق له ولابناء جيله ما يحلمون به . تكسرت أحلامهم حلماً تلو الآخر . من حلم التحرير والانحياز للكفاح المسلح ، الى الحلم الناصري بامة عربية واحدة ، والحماس غير المشروط لاي وحدة عربية ، بين مصر وسوريا او بين العراق وسوريا او بين اليمنين غير السعيدين ، او بين ليبيا والجزائر في اقاصي المغرب العربي ودول المواجهة مع اسرائيل .
انتصر طلال سلمان لفلسطين ، فخذلته ارتداداتها في مصر ولبنان وسوريا والعراق والاردن والخليج ، وفي البيت الفلسطيني الذي فاحت منه روائح التشرذم فأضاف الى سجله المأساوي شتاتاً على شتات .
وانتصر للتغيير الديموقراطي ، لكنه لم يجد في الربيع العربي مسلكاً ممكناً اليه ، فاحترقت عيناه بلهيب الحروب الاهلية في لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان ، وضاق صدره بخيبات الامة وويلاتها واقتتال ابنائها … ومات مقهوراً .
اخذ طلال سلمان جانب الانظمة التقدمية في العالم العربي . راهن عليها في تعبيد الطريق الى القدس ، وعلى انبلاج عصر الوحدة الشاملة مع جمال عبد الناصر وانهيار الملكية في مصر وما اعقبها من انهيارات مماثلة . صنع التقدميون من انظمتهم جمهوريات مقنّعة بزي الملوك سحبت من طلال وسائل الدفاع والاقناع والتبرير ، وقدمت للانظمة " الرجعية " فرصة ذهبية لتقدم الصفوف العربية واعتلاء منابر ربيع لم يُزهر … فمات مقهوراً .
صنع طلال من الاهتراء العربي قوارير حبر لقلم لم يجف في اصعب المراحل . حمل عروبته وتنقل بها ، كاتباً ومراسلاً ومحرراً في العديد من المطبوعات اليومية والاسبوعية . لمع اسمه في قوائم كبار الكتاب والمراسلين اللبنانيين والعرب . الى ان جاءته فرصة الانضمام الى نادي اصحاب الصحف الكبرى ، واصدار جريدة " السفير "بابهى حلة عربية .
طلال سلمان في " السفير " يختلف عن طلال الذي سبق . هنا اطلق العنان لاحلامه فصنع جريدة اخترقت جدران الانظمة والمجتمعات السياسية العربية . لها من عمره اثنان واربعون عاماً ، بدأت على مشارف الحرب الاهلية اللبنانية العام ١٩٧٤ وانتهت مع اشتعال الحروب الاهلية العربية العام ٢٠١٦ .
ادرك طلال انه لم تعد هناك حاجة لصحيفة تنقل اخبار المقابر العربية الجماعية من فلسطين الى لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان ، وسائر الأمكنة المنكوبة باوبئة القمع والتطرف والطائفية … اقفل " السفير " ومات مقهوراً .
ارادها طلال سلمان جريدة مميزة ، تقارع الظلم اينما كان وتطارد الانظمة في عقر دارها .
ارادها كما جاءت في الملصقات الاعلانية لصدورها ؛ " جريدة مقاتلة " أقلامها رماح ، وعدسات كاميراتها فوهات مدافع ، واسرتها جيش من المهنيين والحزبيين وطفار الانظمة العربية .
شكل صدور " السفير " فتحاً مميزاً في عالم الصحافة اللبنانية
. " جريدة الوطن العربي في لبنان وجريدة لبنان في الوطن العربي " .
شعار طموح اشتغل طلال سلمان على ترجمته من خلال الاسرة التي اختارها . اسرة جمعت اللبناني والفلسطيني والمصري والسوري والعراقي والتونسي والاردني في قاعة تحرير واحدة ، جذبت اليها مشاركات لكتاب ومراسلين من السعودية والبحرين والكويت وعُمان والمغرب والسودان والشتات العربي في أصقاع الدنيا .
يومها كانت بيروت منارة الاعلام العربي . أطفأوا المنارة . وكانت صحف لبنان منابر لكل العرب . كسروا المنابر . وكانت السفير صوت الذين لا صوت لهم . كتموا الاصوات . وكان طلال سلمان لسان العرب . توقف اللسان عن الكلام المباح .
في ١٤ تموز ١٩٨٤ اطلق مسلحون رشقاً من سلاح بومب اكشن ، على طلال سلمان اثناء دخوله بعد منتصف الليل الى منزله في محلة البريستول ، بعد لقاء مع الشيخ رفيق الحريري في محلة فردان . اصابه الرشق في وجهه اصابات قاتلة ، نجا منها بقدرة قادر . يومها عنونت جريدته الآتي : "نجا طلال سلمان والسفير مستمرة " .
الان صار " الوطن بلا السفير "... والوطن بلا طلال سلمان .
رحم الله المعلم طلال . والرحمة موصولة منه الى رفاقه " على الطريق "ناجي العلي ومصطفى الحسيني ومحمد مشموشي ومنح الصلح وسمير فرنجية والياس عبود وجوزيف سماحة وجورج ناصيف وابراهيم عامر وسعدالله ونوس وأسعد المقدم وأحمد عبد الباقي وعبد الستار اللاز وميشال حلوة وعبد الرزاق السيد وغسان حبال وفادية الشرقاوي وعلي حسن وعصام الجردي ويوسف برجاوي وعدنان الحاج وشقيقي حسن . و احر التعازي القلبية لرفاق التأسيس " الاعزاء ياسر نعمة وبلال الحسن وحلمي التوني وشقيقه الزميل فيصل ، والعزيزة ام احمد واحمد وهنادي وربيعة وعلي وعصام ومحمد ، سائلاً الله له الرحمة والنجاة لامة كرّس طلال سلمان قلمه لعزتها وكرامتها .
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.