برعاية سماحة مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان انعقد المؤتمر العلمي بعنوان ( سماحة المفتي الشيخ خليل الميس واثره الفقهي والتربوي والاجتماعي ) ببلدة مجدل العنجر البقاعيه؛ وشارك بالمؤتمر وعلى مدى يوميين متتاليين العديد من الباحثين والمفكرين والكتاب الذين تنالوا جوانت عديدة من شخصية العلامه المفتي الشيخ خليل الميس واثرها الفقهي والتربوي والاجتماعي في لبنان؛ وشارك سماحة القاضي الشيخ خلدون عريمط رئيس المركز الاسلامي للدراسات والاعلام باعمال المؤتمر ببحث علمي بعنوان ( السياسة الشرعية واثرها بمسيرة وخطاب المفتي الشيخ خليل الميس )
وفي المناسبة تحدث القاضي الشيخ خلدون عريمط رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام : من المعروف لدى المؤرّخين لعلوم الإسلام وتاريخه أنّ مصطلح (السياسة الشرعية) لم يُستخدم عند الفقهاء المسلمين الأوائل في القرون الأربعة الأولى من تاريخ الإسلام السياسي أو الفقهي، وإنما أوّل من أشار وعبَّر عن هذا المصطلح الإمام علي بن عقيل الحنبلي عام 513 هجري خلال ولاية الخليفة العباسي الفضل بن أحمد "المسترشد بالله" (512هـ - 529هـ)، عندما ظهرت الشعوبيّة ومعها وبسببها عمّ الفساد والفتن والانحراف، وسوء استخدام السلطة في كثير من أمصار المسلمين، حينها وضع الإمام ابن عقيل الحنبلي في كتابه الموسوعة "كتاب الفنون" فصلاً بعنوان (العمل في السلطنة بالسياسة الشرعيّة)، وبعده بقرنَين من الزمن في ولاية الخليفة العباسي سليمان المستكفي بالله (701هـ - 736هـ)، وضع شيخ الإسلام الإمام الفقيه ابن تيميّة عام 728هـجري كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيّة)، ولذلك فإنّ السياسة الشرعيّة تعني عند الفقهاء "تطبيق أُولي الأمر أحكام الشريعة على رعاياهم"، والبعض منهم عرّف السياسة الشرعية بأنّها "تصرّفات أُولي الأمر التي لا تُخالف حكماً شرعياً، والمبنيّة على المصلحة في ما لم يرِد به نصّ يتعيّن العمل به".
هذا المفهوم الشامل أو ذاك للسياسة الشرعيّة، كانت أساساً واضحاً وبارزاً في الملامح المبكّرة للسلوكيات العمليّة في شخصيّة العلاّمة المفتي الشيخ خليل الميس فور عودته من جامعة الأزهر الشريف في القاهرة، بناءً لطلب المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد وتعيينه مديراً للمعهد الشرعي "أزهر لبنان" في بيروت عام 1970، وبعدها اتّضحت أكثر فأكثر مقاصد السياسة الشرعيّة في شخصيّة العلاّمة الشيخ خليل الميس مع بداية مشواره التربوي والعلمي وخطابه الديني والفعلي مع أقرانه وطلاّبه وعارفيه، وفي المنتديات الثقافيّة والجامعيّة، وفي المساجد وخلاياها وقاعاتها، وهو القادم بمروءته وأريحيّته وعنفوانه من البيئة القرويّة البقاعيّة الوافدة لسيّدة العواصم العربيّة بيروت، ليقود من أزهرها الديني مسيرة الإعداد لجيلٍ جديد من العلماء الشباب في الشريعة الإسلاميّة وعلومها للنهوض بالمؤسسة الدينيّة الإسلاميّة في لبنان، هذه المؤسسة التي كَبَتْ لعوامل متعدّدة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وبدأت ملامح نهوضها في نهاية الستينيات من القرن نفسه، مع انتخاب العلاّمة الشيخ حسن خالد مفتياً للجمهوريّة اللبنانيّة بالإجماع، وبعدها تعيين العلاّمة الشيخ خليل الميس مديراً لأزهر لبنان، خلَفاً للعلاّمة الأزهري الشيخ فهيم أبو عُبيّة الذي كان مصريّ الجنسية، ولبنانيّ الهوى والهُوية العربية.
فالسياسة الشرعيّة وقواعدها كانت المنطلق الأساسي لمسيرة وخطاب العلاّمة المفتي الشيخ خليل الميس، ومعه كوكبة من متخرّجي الأزهر الشريف تسانده في عمله ليلاً ونهاراً بأزهر لبنان في بيروت، وفي مجلّة الفكر الإسلامي التي كانت بإدارة العلاّمة الدكتور رضوان السيّد، وفي المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ولجانه، وفي المجلس الاستشاري لمفتي الجمهورية وطروحاته ومواقفه ممّا يجري على الساحة اللبنانية في السبعينيّات والثمانينيات من القرن الماضي من فتنٍ وصراعات محليّة وإقليميّة، وفي جامعة بيروت الإسلاميّة وكُلّية الشريعة فيها، وكثيراً ما تجلّى مفهوم السياسة الشرعيّة في نقاشات وحوارات العلاّمة المفتي الميس في المؤتمرات والمجامع الفقهيّة في الوطن العربي والعالم الإسلامي من القاهرة إلى مكّة المكرّمة، ومن مكّة المكرّمة إلى جدّة والجزائر واسطنبول وماليزيا وكراتشي في باكستان.
أمّا بقاعياً تجلّت هذه الشخصيّة في مهامها الشرعية بدار الفتوى في البقاع وفي مؤسسات أزهر البقاع وجامعتها التي أسّسها ونمّاها واحتضنها كاحتضانه لابنتَيه الكريمتَين بل وأكثر، بعد تعيينه مفتياً للبقاع ليحافظ قولاً وفعلاً، سلوكاً وممارسةً على الهُوية العربيّة والعقيدة الإسلاميّة الصحيحة، والعيش الوطني الواحد بين المسلمين والمسيحيين في بقاع الخير، بقاع الوطنيّة والعروبة والإسلام، وفي موقفه الشرعيّ البارز من قضيّة فلسطين وقُدسها ووجوب تحريرها شرعاً من البحر إلى النهر، فهي أرض وقفٍ لله تعالى، كما يقول المفتي الميس "لا تُباع ولا تُرهن ولا تؤجّر ولا يجوز شرعاً التنازل عن شبرٍ من أرضها المباركة، فهي حق الله تعالى، وأمانة الله تعالى لدى المسلمين، ولدى العرب بمُسلميهم ومسيحيّيهم على مرّ العصور والأزمان"، وكما يقول المفتي الميس أيضاً "القدس وما حولها تنتظر الخليفة عُمر والسلطان صلاح الدين الأيوبي وما يُماثلهما، لتحرير الأرض والعقيدة والوجود والتاريخ في فلسطين وما حولها".
فالسياسة الشرعية المستمدّة من كتاب الله وسنّة نبيّه عليه الصلاة والسلام وسيرة السّلف الصالح، كانت ملازمة للعلاّمة المفتي الميس في كلّ مراحل حياته حتى انتقاله لرحمة ربّه، وهو الذي لم يُورِّث لأسرته عقاراً أو درهماً أو أرصدةً في البنوك داخل لبنان أو خارجه، وإنّما ترك لابنتَيه وأسرته عِلماً نافعاً للوطن وللأمّة، ومؤسساتٍ أوقفها في سبيل الله. وهو الذي يُدرك بأنّ النظام والوضع العام بعيد كل البُعد عن محاسن ومقاصد السياسة الشرعيّة، ولذلك قال: "الإسلام عقيدة وشريعة، هو نظام حياة، يتميّز عن الشرائع والمِلل الأخرى، ولكنه واحد من حيث التنزيل غير متعدّد، فليس هناك إسلام سنّي، ولا إسلام شيعي، ولا إسلام حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وجعفري، بل كل هؤلاء الأئمة رضوان الله عليهم مسلمون، وإن كان فَهْمُ آيات التنزيل، وأحاديث رسول الله قد يتفاوت ما بين صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهُم أصحاب المناهج والمدارس في العقيدة والفقه والسلوك، ومَنْ جاء بعدهم من التابعين على منهج، وكذلك المدارك البشرية تتفاوت بدءاً من الصحابة رضوان الله عليهم الذين عاصروا التنزيل، وعايشوا رسول الله في حلّه وترحاله، وفي سفره وحضره، وفي حربه وسلمه، وفي صلاته وصومه، وحجّه، بل وفي كل شؤون حياته، سمعوا منه، وفهموا عنه، وساروا على نهجه من بعده".
وقد توقف العلاّمة المفتي الميس خلال مسيرته الطويلة التي قاربت النصف قرن، ممّا يجري على ساحتنا الإسلامية والعربية من بِدَعٍ وتشوّهاتٍ أساءت للإسلام ودوره، سياسياً واجتماعياً وتربوياً واقتصادياً، حتى تخيّل للبعض أنّ الإسلام في مكان، والمجتمع في مكانٍ آخر، حتى أن بعض الناس اتّخذوا آلهةً من دون الله يتحاكمون إليها ويتّخذونها مصدراً للتشريع والسلطة والثراء. ولذلك كان قول العلاّمة المفتي الميس في كثير من المواقع "إنّ هذا الشِرك السياسي الجديد في المجتمع الإسلامي لم يكن موجوداً في الفكر الإسلامي العقدي الصحيح، ولذلك انبرت أقلام غير واحد من مُجدّدي هذا العصر في التصدّي له وكان نوعاً جديداً من الشِرك لا بدّ من التصّدي له بفكرٍ عقائدي، ولا بدّ من نمو الفكر الإسلامي، وبالتالي تجديد الخطاب الإسلامي وهو الذي يوصف بالمعاصرة أو الحداثة، لا بدّ من تجديد الفكر العقدي في كل طورٍ، لأنّ الشِرك في كل عهد من العهود يتّخذ مظهراً مختلفاً، فقد يكون مثلاً شِركاً في الاقتصاد والمعاش، فالنبيّ شُعيب عليه السلام كانت قضيّة التوحيد عنده مرتبطة بالاقتصاد، والنبيّ موسى عليه السلام كانت قضية التوحيد عنده مرتبطة بالسياسة من جانبٍ في وجه فرعون، وبالاقتصاد من جانب آخر في وجه قارون. وكانا عليهما السلام يُمثّلان وجهَين من وجوه التصدي للشِرك السياسي والاقتصادي، لذلك كان لا بدّ أن يتجدّد الفكر الاعتقادي ليعالج ويُجابه نوع المرض الذي يصيب مجتمعاتنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي".
فالعلاّمة المفتي الميس بقدر ما عاش مأساة لبنان وشعبه عاشَ هموم الأمة بجناحيها العربي والإسلامي وهو في محرابه في أزهر لبنان في بيروت، أو في مقرّه الأحبّ إلى قلبه أزهر البقاع ومؤسساته، وهو المتنقّل والمسافر دائماً، للمشاركة في المجامع الفقهيّة والمؤتمرات الفكريّة والتنمويّة والدعويّة في العواصم والحواضر العربية والإسلامية، من جاكرتا شرق الأمة إلى مدينة طنجة في غربها.
لقد عايش العلاّمة المفتي الميس وهو بجانب المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، هموم فلسطين ونكبتها وشعبها، والجزائر وثورتها، والعراق ووحدته ومحاولات احتوائه، واليمن وآلامه، وبنغلادش وكشمير بالعدوان عليهما. والتقى مع القادة والزعماء ومع التجمعات والأقليات الإسلامية في آسيا وأفريقيا والقارّتين الأوروبية والأميركية، فكانت أزمة الأمة وتفسّخها والحروب عليها تتعايش مع خطابه ومسيرته، وكثيراً ما كان يُعبّر عنها في مواعظه وخُطَبِهِ وحتى في احتضانه للطلاب المسلمين الوافدين إلى أزهر لبنان في بيروت، وأزهر البقاع من بعض البلدان العربية وأفريقيا والبرازيل وماليزيا وأندونيسيا وباكستان والهند، لأنه يُدرك بأنّ الأمة واحدة انطلاقاً من قوله تعالى {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} صدق الله العظيم. ومن أجل ذلك كان قول العلاّمة المفتي الميس إنّ أزمة الأمّة المعنويّة ليست أزمة عقيدة وقيَم ومبادئ، وإنّما هي أزمة فكرٍ ومنهج، وإنّ الحضارة المعاصرة التي نعيشها – شئنا أم أبينا – ليست من جنس الحضارة التي عرفها أسلافنا، وليست امتداداً مباشراً لها، بل هي من صُنع غيرنا في كل وجوهها وصورِها وأدواتها، لذلك فالتحدّيات التي تواجهنا هي تحديات حضارة جديدة تماماً، تتطلب مواجهتها فكراً جديداً وأساليب جديدة.
وكما هو معروف فإنّ العلاّمة المفتي الميس تصدّى من خلال مفهومه للسياسة الشرعيّة لكل أنواع التطرف والغلوّ والمغالاة وعبادة الذات، فأشار إلى أن التطرف في الدِّين يتبع السياسة دوماً، فعندما تُمارس السياسة في الدِّين على مستوى العقيدة، يكون التطرف في ميدان العقيدة، وعندما تُمارس السياسة في الدِّين على مستوى الشريعة يكون التطرّف في ميدان الشريعة.
وللذي يعرف العلاّمة المفتي الشيخ خليل الميس، يعرف بأنّه كان ذات بُعدٍ مستقبليّ ونظرة ثاقبة إلى الأمام، ينظر إلى مستقبل الوطن والأّمة، ويرفض الواقع بآلامه ومراراته مهما كانت التحدّيات والصعوبات، وهو الذي حوّل الجبل الأشمّ في بلدة عنجر البقاعية، إلى واحة علمٍ ومعرفةٍ وإيمان، وإلى هُويةٍ وطنية وعربيّة وإسلاميّة، حتى باتت هذه الربوة بمؤسساتها الشاهقة (مؤسسات المفتي الميس) معلَماً خالداً كمعالمِ مآذنِ الأزهر الشريف في القاهرة، ومآذن جامع الزيتون في تونس، ومعالمَ المسجد الأموّي في دمشق، ومسجد الأعظمية في بغداد، ومسجد السلطان أحمد في اسطنبول، ومسجد محمد الأمين عليه الصلاة والسلام في سيّدة العواصم العربية بيروت.
ولذلك قال المفتي الميس في ندوة عام 2001 "على مفكّري الأمة الإسلامية وعلمائها بل ومُثقفيها النظر في أسس ومفهوم الفكر الإسلامي ومكوّناته ومنهجيّته، وأن يعيدوا إلى الفكر الإسلامي والرؤية الإسلامية أصالتها وفطريّتها وواقعيّتها، وعلى مفكّري الأمة مسؤولية التقدّم بالأمة إلى المرتبة التي تستحقها بين الأمم، وذلك بتقديم الرؤية الحضارية المعاصرة، وإصلاح منهجية الفكر الإسلامي، وذلك بتحقيق الأصالة الشمولية العلمية وتقديم البدائل الإسلامية في مجال التنظيم الاجتماعي والتربية الاجتماعيّة بناءً على منهج التفكير الإسلامي الصحيح والمستقيم، والأمة لا ينقصها الموارد ولا الإمكانيات ولا القيَم، ولكن ينقصها منهج الفكر السليم.
فالقضية عند العلاّمة المفتي الميس هي الالتزام بالتوحيد والعدالة والحرية للإنسان وللوطن وللأمة، بمفهوم السياسة الشرعية التي انتهجها النبيّ العربيّ محمد عليه الصلاة والسلام، ومَن جاء بعده من الخلفاء الراشدين، وآل بيته وصحابته والتابعين من السّلف الصالح، لنكون كما أرادنا الله سبحانه وتعالى أمّةَ التوحيد والخيريّة، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ}. صدق الله العظيم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.