12 كانون الأول 2022 | 11:04

أخبار لبنان

مستمرّة... "إلى أبد الآبدين"

كتب جورج بكاسيني




مع صدور عدد الثالث عشر من كانون الأول 2005 بعنوان "جبران تويني لم يمت و"النهار" مستمرة" ، قام "الديك" من بين موتين : موت جبران وموت صاحبة الجلالة. أراد الراحل الكبير غسان تويني أن يكون استشهاد جبران ومعه "مهنة المتاعب" فعل قيامة، حتى إذا حملت نايلة، وريثة "الجبرانين" وما بينهما، صليب هذه القيامة ،حوّلتها الى مقاومة.

لم يكن عنوان "النهار" المُشار إليه مجرّد ردّ عاطفي أو انفعالي على اغتيال جبران، الذي كان عبارة عن رسالة متفجّرة "لمن يهمه الأمر"، وإنما إجابة مدوّية أقرنت القول بالفعل مع "استمرار" "النهار" ونبض جبران معاً.

ربّما حصد الموت باقة من الشهداء، لكنه لم يقوَ على نبضهم الذي بقي حيّاً يُرزق، تماماً كما لم تقوَ الصحافة الإلكترونية ومعها الأزمات الإقتصادية على الصحافة المكتوبة ورائحة الورق المدوّية حتى اليوم .

رُبّ قائل أن الفضاء الرقمي ربح الحرب فيما لا تزال الصحافة المكتوبة تخوض المعركة تلوَ الأخرى من دون جدوى، وهذا صحيح نظرياً . أما واقع الحال أن الصحف لا تزال حتى يومنا هذا تحتلّ مكانتها التي تليق بها ، في لبنان والعالم . والدليل على ذلك أن كبريات الصحف العالمية "مستمرّة"، رغم العقبات الإقتصادية و"الإلكترونية" وتراجع سوق الإعلانات.

أقول هذا ويُحاصرني حنين الى رائحة الحبر منذ أن انتقلتُ قسراً ومجموعة من الزملاء الى الصحافة الإلكترونية قبل ثلاث سنوات، بعد عشرين عاماً أمضيتها في جريدة "المستقبل" ، حيث اختلطت أزمات السياسة بأزمات المهنة ومشقّاتها وأكلافها.

لم يعد ممكناً تحمّل الفارق الكبير بين الكلفة والمردود، وكأن قدر المهنة أن تقع فريسة "متاعبها" التي تضاعفت مع تراجع السيولة وسوق الإعلانات وتقدّم الصحافة الرقمية الصفوف الأمامية في آن . كما لم يعد ممكناً انتظار القارئ موعد الصدور وقد سبقنا إليه هاتفه الخليوي الموثّق بالصوت والصورة.

لم يعد ينقص أزماتنا المتناسلة سوى أزمة المهنة، وقد حوصرت من كل الجهات حتى النخاع . لم تعد تستقطب سوى أقليّة من نخب جيلنا، فيما أصبح الجمهور، أو الرأي العام الواسع، أسير الأخبار الإلكترونية التي يفتقد معظمها الى الدقّة أو "تقاطع المصادر" التي كانت تتولّاها "مطابخ" الصحف الورقية . صارت الـ " fake news "الظاهرة الأكثر انتشاراً في عصرنا الإفتراضي، وصار الخبر المعزّز بالوثائق والأدلة والخلفيات مخالفاً للموضة . كان إذا خُطف طفل في أحد أحياء العاصمة احتلّ الخبر حيّزاً من الصفحة الأولى، ثم تولّى أكثر من زميل متابعة تداعياته، وأُجريت مقابلات مع مسؤولين أمنيين وقضاة ، وربّما علماء نفس ، لمعرفة دوافع الخاطف حتى بلوغ الحدث خواتيمه القضائية. أما اليوم فإن أي حدث ثانوي كفيل بطمس أي حدث جلل ولو كان بمنزلة انهيار جمهورية .

تبدّلت المعايير وتبدّلت معها طقوس المهنة وقد حوّلوها مجرّد أرشيف لما مضى . لكن بقي سرّها، سرّ المهنة، تماماً كما بقيت "النهار" جريدتنا الأحلى في بيروت وفي بلاد العرب، نُقلّب صفحاتها ونتنشّق حبر سطورها كما لو أنه عطر .

لم يمت جبران الأول ولا الثاني ولا سليل الغساسنة. أما الطبعة التوينية الرابعة التي قاومت وما زالت تقاوم باللحم الحيَ ، فستبقى بإذن الله "مستمرّة"... "إلى أبد الآبدين".




النهار 





يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

12 كانون الأول 2022 11:04