على مرّ تاريخ البشرية قامت مدن وممالك استوطنها البشر ثم اندثرت ولم يبق منها سوى أطلال، لكن مدناً أخرى بقيت صامدة بنياناً ونبضاً بالحياة .
وتعتبر صيدا القديمة واحدة من المدن التاريخية القلائل التي لا تزال قائمة ومأهولة بالسكان منذ شيدها الفينيقيون قبل نحو ستة آلاف سنة ( الألف الرابع قبل الميلاد)، وتوّجها موقعها على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط عروساً للمدن الفينيقية.
على مدى عقود طويلة ، جرى الكثير من أعمال الحفر والتنقيب خارج أسوار المدينة القديمة – سواء بقصد سبر اسرارها وكنوزها أم عن طريق صدفة قيام روشة بناء أو غير ذلك – فكانت تكشف عن آثار وبقايا معابد او هياكل مردومة لمدن وممالك وشعوب وحضارات من حقبات تاريخية اندثرت أو اختفت ، بينما بقيت صيدا القديمة قائمة .. فما هو سر بقاء هذه المدينة التاريخية وصمودها بنياناً وحياةً حتى اليوم ؟.
أبو علفا يجيب !
يقول الأستاذ محمد علي أبو علفا رئيس دائرة المساحة في الجنوب سابقاً : "رغم الزلازل التي مرت على المنطقة منذ مئات السنين وهدمت اكثر المساكن والهياكل والمعابد والقلاع والتي نرى آثارها مردومة تحت الأرض وظاهرة فوقها ، فإن صيدا ( القديمة) بقيت قائمة موجودة كمدينة مكتملة بنيانا وطرقات، مظللة بالعقود وأخرى مكشوفة ، وزواريب وحارات وساحات بين الأماكن المتلاصقة ، بالإضافة الى المساجد والزوايا والكنائس والمدارس . فنحن لا نرى من البناء القديم في كل لبنان سوى أجزاء من الهياكل والمعابد والصروح الضخمة، وما عداها فلا اثر له فوق الأرض ان كان من البناء الفينيقي او اليوناني او الروماني، وهذا عائد حتما الى أن الزلازل والحروب القديمة قضت على الأبنية وأخفت معالمها ولم يبق ظاهراً منها سوى أطلال..".
خصوصية الموقع والدور
ويضيف :".. على الرغم من ذلك فقد أعيد بناء مدينة صيدا في موقعها الحالي ربما على انقاض ابنية قديمة وحصرت في مساحة اللسان الممتد في البحر بشكل دائري تقريباً متجهاً من الشمال نحو الغرب ومن ثم الجنوب ، وهو مصان ومحمي من أمواج البحر بالنتوءات الصخرية الموجودة بالقرب من الشاطىء بالإضافة الى الزيرة والنتوء المقامة عليه قلعة صيدا البحرية ، ونتوءاً طويلاً من سلاسل صخرية تمتد من تحت رأس مرسى البواخر الحالي ، متجهة جنوباً نحو صخور "السلالم" ومتواصلة حتى الرأس مقابل مبنى المقاصد ، مشكلة بذلك عامل أمان وحماية للمدينة التي بنيت على مراحل وخلال عقود كثيرة ".
ويرى أبو علفا أن "عامل الأمان والحماية من جهة البحر وقرب الموقع من مجاري المياه وخاصة مجرى نهر الأولي ، هما على الأغلب وراء إقامة مدينة صيدا القديمة في الأصل في موقعها الحالي . حيث امتهن أهلها التجارة فركبوا البحار وصدروا ما كانوا يصنعون من الصباغ الأرجواني الى المناطق على سواحل البحر المتوسط" .
ويشير الى أنه" حتى زلزال 1956 ، كانت المدينة لا تزال على حالها منذ مئات السنين ، فطرقاتها وزواريبها وتكامل الأبنية وتلاصقها مع بعضها البعض ، يعطي صورة أن العمران فيها قد انتهى منذ زمن بعيد ولم تعد توجد اية بقعة فارغة صالحة للبناء فيها ، علماً أن أكثر الأبنية الكبيرة وخاصة المعنية منها ( نسبة لعهد الأمير فخر الدين المعني ) مثل "خان الافرنج وخان الرز والقشلة والقيصرية.." وأغلب المساجد والحمامات والأبنية التي سوّرت وحددت المدينة من ناحية الشرق قد تم تشييدها في القرن السابع عشر ".
ويقول أبو علفا: " يتبين لنا أن المدينة منشأة تدريجياً على شكل بلوكات واسعة ويحتوي كل بلوك على كثير من المجالات والمساكن والفسحات الداخلية ، ومحاط بالطرقات التي توصل المدينة، شمالها بجنوبها وشرقها بغربها ، بالإضافة الى الزواريب والممرات الداخلية ضمن البلوك الواحد ، التي تؤمن الوصول الى كل البيوت والمستودعات و"البواكي"... .
بناء المدينة المقاومة للغزاة
ويتابع :" "ان البناء في مدينة صيدا القديمة يوحي بأنه بناء جماعي دفاعي، وهو متلاصق متآزر، فلا فتحات او فسحات بين البيوت وانما هو بناء متماسك على كامل اتصاله بالطرق العامة. انه بناء الضرورة ، بناء المجموعة ، بناء الدفاع ضد الغزاة والمحتلين ، خاصة وأن المدينة قد تعرضت للإحتلال والغزو مرات عديدة ، وقد آثر أهلها يوماً حرق أنفسهم على عدم الاستسلام لملك الفرس ارتحششتا الثالث ، وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد .
ويلاحظ أبو علفا أن " البناء في صيدا القديمة بمجمله مقام من الحجر الرملي، مرتكز على عقود في الطوابق الأرضية وسقوف خشبية في الطوابق العلوية" ، وأن" الطرقات الرئيسية منفذة من الجنوب نحو الشمال، مع انحدار طبيعة الأرض حيث يسمح بسيلان مياه الأمطار نحو البحر، وكذلك الطرقات العرضية المتجهة من الشرق نحو الغرب " وأن" بعض الطرقات والزواريب تظللها عقود واطئة المراد منها الدفاع عن المدينة في حال الغزو ولإجبار الغزاة بحال دخولهم اليها بالترجل عن أحصنتهم والتصدي لهم ".
و"كثير من الأبواب الواقعة على الطرقات في الطوابق الأرضية – يضيف - لا تدخلها اشعة الشمس ولا الهواء لتلاصق البناء ولعدم وجود الفراغات والفسحات بين المساكن ولضيق عرض الطرقات. وهكذا فإن الظلام يشيع فيها ليل نهار".. فيما " الدورات الصحية في المساكن القديمة بعضها مستقل، وبعضها الآخر مشترك مع بيوت عدة، والبنية التحتية فيما يعود لمجاري المياه المبتذلة ولشبكة المياه اعيد تأهيلها أيام الانتداب الفرنسي ".
أرقام ومقومات
ويستعيد أبو علفا مرحلة مسح المدينة القديمة ، فيشير الى أنه تم مسح كل بلوك تحت رقم عقاري موحد ، ومن ثم إفرازه الى اقسام حسب حدود كل مسكن ومستودع و"باكية". ويقول :" لقد بلغ عدد عقارات مدينة صيدا القديمة 353 عقاراً ، مجموع مساحاتها 160000 متر مربع بدون الطرقات والزواريب العامة . كما قسمت المدينة القديمة إدارياً الى 10 أحياء هي :" الكنان، رجال الأربعين، الزويتيني، المسالخية، الشارع، مار نقولا ، السراي، السبيل ، الكشك ، وحارة اليهود " . . وقد توافر في صيدا القديمة كل شيء ، ففيها المدارس والمساجد والكنائس والزوايا والحمامات والأفران، بالإضافة الى أسواق خاصة لكل صنف من أمور المعيشة والعمل .."..
والى يومنا هذا ، بقيت صيدا القديمة تعتبر نموذجاً متميزاً للمدن التاريخية المأهولة التي لا تزال تزاول وظائفها الحضرية، محتفظة بمخزونها الإنساني والتراثي ونسيجها العمراني القديم، ومنفتحة على آفاق التنمية انطلاقاً من هذه المقومات والتفاعل والإندماج مع امتدادها العمراني والديمغرافي ، ممثلاً بصيدا الكبرى او صيدا الإدارية .
رأفت نعيم
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.