بول شاؤول
130 عاماً على رحيل شاعر "الإشراقيات" و "فصل في الجحيم" و "المركب السكران" ومازال متوهجاً بشعره، وبمسيرته، وشخصيته، ونزقه، وجنونه، وتمرده. ما زال اسمه وصورته أشهر من كل المشاهير: فاليري، وكورنيل، وراسين، وماركس، وغيفاره، وماوتسي تونغ، (ربما شكسبير وحده يوازيه).
على مدى قرن وثلاثين عاماً، ربط القرنين شع على ظواهرهما، وتجلياتهما، وإبداعاتهما كأنه الهواء تنسّم في كل حركة، أو سمة، إرثه كما حياته، تغلغلا وتسربا واجتاحا ما شهده العالم في هذه المساحة المتسعة من السنوات. ولهذا، تعددت قراءاته، وتنوعت محاولات "استيعابه" واحتوائه: فالسورياليون، جعلوه "أباً" لهم، والكاثوليك ومن خلال الشاعر بول كلوديل، وسموه بالايمان، قسراً، واعتباطاً، والماركسيون جعلوه منارتهم "الأيديولوجية" وحتى اليمين المحافظـ مدّ أصابعه إليه، وأردفه في قطاعاته، كما فعل دريو لاروشيل، ولوسيان دوناتميه
كل ذلك، بقي اجتهاداً، فهو ليس من أهل المذاهب ولا من أهل الشيوعيين، ولا هو من المدرسة السوريالية، وإن في شعره (خصوصاً في الإشراقيات) بعض ما استلهمه أراغون، وبريتون، وادويار...
لكن، عنده في المقابل "يساريته" الخاصة (تغيير الحياة)، وحضوره "الكومونى في باريس" وخرج على "الانتماءات" الوطنية الضيقة والاتجاهات المقولبة... يعني، ليس رامبو ثنائياً، أو ذا هوية محددة، فهو يخترق كل الهويات وكل الأفكار الجاهزة، ولهذا توزعت صورته، ومسيرته، ومزاجيته، في العالم: كل عنده رامبو، كل يراه كما يحلو له، كل يجد فيه شيئاً منه.
وهكذا، غزا العالم بشعره، وسيرته، ويعرف العالم صورته أكثر مما يعرف شكسبير، فهو أبو الترحل إلى المجهول، والشباب الدائم والمنقلب المستمر على ذاته.
موجود في العالم العربي، وعنده "أبناؤه" من الشعراء المتمردين المترحلين مثل "محمد شكري" وعنده أحفاده الثوريون (الفنانة فريدا كاهلو) رسمته وجعلته موضوعاً، وفنانو "الشارع" و"الملصقات" جعلوه رائدهم: إنه ابن الشارع، وابن الأرصفة، والابن الضال الذي بقي ضالاً إلى الأبد، وكتب رينيه شار "أنه أول شاعر لحضارة لم تظهر بعد" وكتب أراغون "الرمبوية ليست فلسفة. إنها سماء، كل واحد يتدبرها، يكفي أن يرفع عينيه إلى السماء ليصيبه الإبهار" شاعر الأوجه اللامتناهية تماهوا به راقصو الروك، والفانكس، واليساريون...
إنه في كل الأجيال الفتى الأبدي، فها هو يتسكع ويوازي الطريق، ليرافقه جماعة "البيت" مثل كرواك وغيسنبرغ، وكذلك بوب ديلان، كأن اللحظة المؤسسة للشعر والحياة: فجر كل شيء في الأدب من خلال كتابيه "الإشراقيات" و "فصل في الجحيم" بكّر في كل شيء: في الشعر، وفي التمرد، وفي الموت (رحل عن 37 عاماً) وبكّر في مغادرة الشعر (توقف وهو في سن العشرين) وبكّر في الرحيل إلى المجهول، وكذلك في التمرد...
قد نتساءل: ماذا بقي من بول كلوديل؟ أو فوكنر، ماركس، أو مارلو، أو السورياليين، أو الرمزيين، أو غروتوفسكي، أو برشت؟
لكن، ينتفي هذا السؤال مع رامبو، بقي كل هذه السنوات كفعل ربيع دائم، نضر، غض، أخضر، لم تسقط ورقة واحدة من أشجاره، قرأت شعره الموزون، وقصائده النثرية، قد يكون قد تأثر في موزونه ببودلير، أو حتى بملامح من هيغو؛ ولكن برغم هذا التأثر فقد أضاف الملمح الرمزي (الإيحائي) لاسيما في قصيدته "المركب السكران" على هذا الأساس يعتبر مع بودلير في رواد المدرسة الرمزية. طبعاً، هو يرفض هذا التصنيف ولكن من خلال قراءته نجد الرمزية عنده متمثلة بالصورة. الصورة المتفجرة في كل اتجاه (هنا هو أبو السوريالية) حتى قال عنه جان بول سارتر: "شعره كمن يكسر بيضة في يده فتسيل بصفارها وبياضها"... وهذا يعني أنه غير إلى حدٍّ كبير. مفهوم القصيدة "البلاغية" المنحوتة، ذات البنية المتماسكة، وإذا كان بودلير أبا قصيدة النثر في ديوانه المشهور، إلا أنه لم ينجح في صوغها، فبقيت ريادته في ديوانه "أزهار الشعر" المنظومة نظماً. عكس بودلير، بقي شعره المنظوم على أهميته، ضمن الإطار الغنائي – الرمزي).
لكن عظمته، تتمثل في كتابيه "الإشراقيات" و "فصل في الجحيم" الذي فتح مسالك جديدة للشعر، تأثر به بروتون، وفيليب سوبو، وعندنا أُنسي الحاج وسليم بركات... وآخرون في العالم العربي وسواه.
ومن هذا المنظار، نجد، أنه إذا كان بول فرلين يمثل (بحسب النقاد) الرمزية الموحية بالموسيقى (كيميائية العناصر الإيقاعية)، فإن رمبو يمثل الرمزية الموحية بالصورة، الصورة المتفجرة في كل الجهات، بتأثيراتها الغامضة، بعلامات عناصرها الرؤيوية، والبصرية، والتجريدية، والمادية، والتي تدهش بفضاءاتها، أنها الصورة التي لا يصنعها المعنى أو تصوغها العين بكاميرا، أو بعلاقات منطقية، بل هي "المتخيل" الرؤيوي والغامض والمجرد ذو الأدهاش والاحتراف. فصورته لا تنأسر بالوصف المحدد، والواعي، بل بمزيج من الحلم واللاوعي والإشراق (فهو بهذا المعنى شاعر صوفي مادي بامتياز) إنها الصوفية المادية: أي جمع بين الحالات "الروحية" (التجريدية) وبين التجسيد. لعبة المتناقضات، وحطم العلاقات المتوازية والمنطقية المحدودة.
إنه رمبو، شاعر المغادرات المبكرة، والتمرد، والخروج على المواصفات والأساليب الجاهزة.