كتب جورج بكاسيني
وسط الغبار الكثيف الذي يحجب الرؤيا عن أحكام الدستور، وعصف الاجتهادات و"المعايير" اللادستورية التي تحاصر مسيرة تشكيل الحكومة منذ أكثر من سبعة شهور، لا بدّ من العودة الى "الشاهد الذهبي"على الطائف، الذي واكبه لحظة بلحظة في مرحلتي المخاض والولادة، تماماً كما واكب الإنقلابات المتعاقبة عليه، نصاً وروحاً، منذ العام 1990 حتى اليوم.
رغم ابتعاده القسري عن شاشة الأحداث اليومية، وغضبه الدفين ممّا آلت إليه أحوال البلاد والعباد، بقي رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني الناطق الشرعي الأبرز باسم الدستور، والمدقّق "الجنائي" الأهمّ بأحكامه التي تعلو فوق كل اجتهاد أو معيار . يرفع الصوت حيناً، ويُحذّر من الخروج على النص حيناً آخر ، ويعود في كل الأحيان الى "وثيقة الوفاق الوطني" مادةً مادة، كما لو أنها برتبة إنجيل أو قرآن.
لم يترك "السيّد" شاردة أو واردة دستورية تتّصل بمسار تشكيل الحكومة إلاّ وقاربها انطلاقاً من الدستور نفسه، بعيدا عن "القيل والقال" أو الثرثرات غير المطابقة لمواصفات الطائف. فنّد بالتفصيل ، في حوار دام ثلاث ساعات، "البدع" التي حلّت مكان "الكتاب"، وفي مقدّمها ما يُسمّى "حصّة" رئيس الجمهورية في الحكومة العتيدة.
الموارنة ليسوا بحاجة
لبكركي ثانية في القصر
"لا شيء إسمه حصّة لرئيس الجمهورية في الدستور، لا في الحكومة ولا في غيرها"، يقول السيّد حسين، لأن الموارنة "ليسوا في حاجة الى بكركي ثانية في القصر الجمهوري ولا السنّة بحاجة الى دار فتوى في السراي الحكومي ولا الشيعة بحاجة الى مجلس شيعي أعلى في ساحة النجمة. رئيس الجمهورية حسب المادة 49 من الدستور هو "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور.. " وهذه وظيفة تمنح رئيس الجمهورية دور المحافظة على النظام والكيان وتضعه في موقع سامِ فوق السلطات والصلاحيات".
يستغرب الحسيني كيف أن بعضهم لم يتوقّف بالاهتمام المطلوب أمام "منح رئيس الجمهورية في الطائف صفة "رئيس الدولة"، بعد أن كانت هذه الصفة محصورة بالمفوّض السامي الفرنسي قبل الإستقلال. ومعنى ذلك أن رئيس الدولة هو رئيس كل السلطات و كل اللبنانيين وبالتالي لا يمكن أن يكون طرفاً من خلال حصّة هنا أو هناك بل رئيساً للجميع موالاة ومعارضة".
"حصّة للرئيس"
تتيح إبطال رئاسته
أما الأكثر غرابة، حسب السيّد ، فهو مطالبة رئيس الجمهورية بما يُسمّى "الثلث المعطّل" الذي لم يرِدْ في الدستور لا نصّاً ولا روحاً: "إن الركيزة الأولى التي يِقوم عليها تشكيل الحكومات في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية هي التضامن الوزاري، وبالتالي فإن أي وزير لا يلتزم بقرار الأكثرية الموصوفة ينبغي أن يغادر الحكومة، فكيف يسعى بعضهم وجهاراً إلى التعطيل داخل الحكومة ؟.
يتابع رئيس مجلس النواب الأسبق: " إن إشارة الدستور إلى وجوب "الإتفاق" بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف لا تعني ضمان حصة لرئيس الجمهورية في الحكومة وإنما اضطلاعه بالدور الذي حدّده له الدستور، أي التأكّد من مراعاة التشكيلة الحكومية لثوابت الحفاظ على الكيان والإستقلال والنظام العام. كما أن وظيفة رئيس الجمهورية أن يحول - إزاء أي تشكيلة حكومية - دون تمكين أي شخص أو فئة أو حزب أو طائفة من امتلاك الأكثرية المقررّة أو الأقلّية المعطّلة (انسجاماً مع مبدأ التضامن الوزاري) فكيف يطالب هو نفسه بنسبة معطّلة في الحكومة؟ وبناء على ذلك يمكن إبطال رئاسة رئيس الجمهورية في حال حصوله على "حصّة" في الحكومة، لأنه حسب أحكام الدستور لا تبعة على رئيس البلاد وهو مُعفى من كل مسؤولية، وبمجرّد حصوله على حصّة يكون قد ألغى الدستور الذي أعفاه أساساً من المسؤولية".
٦ ضربات موجعة
للطائف
هذه" المعايير" غير الدستورية الممتدّة من مطالبة الرئيس بحصّة في الحكومة الى ما يسمّى "حقوق المسيحيين"، مرورا بالتمييز بين الميثاق والدستور رغم أن الأول "أصبح جزءاً من الثاني (مقدّمة الدستور)"، يُدرجها الرئيس الحسيني في مسار بياني من الضربات المتلاحقة التي استهدفت"الوفاق الوطني" دشّنها ميشال عون في 1988 ثمّ توّجها هو نفسه في 2021 :
"الضربة الأولى :قادها الجنرال عون العام 1988 ضد فكرة تلازم الوفاق الوطني مع انتخاب رئيس للجمهورية، عندما اجتمع مع الدكتور سمير جعجع في اليرزة أثناء انعقاد القمة اللبنانية – السورية في دمشق بين الرئيسين أمين الجميل وحافظ الأسد. لم يُجهض لقاء اليرزة انتخاب مخايل الضاهر رئيساً وحسب، وإنما أطاح أيضا اجتماعاً موسّعاً كان يفترض أن يشارك فيه مع الرئيسين الجميل والأسد الرئيس الراحل سليمان فرنجية والرئيس سليم الحصّ وأنا، وقد توجّهنا بالفعل نحن الثلاثة الى سوريا، وكان يفترض أن ننضم الى اجتماع القمة بعد وقت من انطلاقها لكي نصيغ معاً وفاقاً وطنياً مواكباً لأي رئيس يتم انتخابه ، لكن اتصال سيمون قسيس (مدير المخابرات آنذاك) بالرئيس الجميل خلال القمّة وإبلاغه عن اجتماع اليرزة أطاح الاجتماع والتوافق معاً . وقد توّج هذا الإنقلاب باغتيال الرئيس رينيه معوّض الذي لا يُعوّض، والذي كان بمثابة ضربة موجعة للطائف.
الضربة الثانية: مقاطعة المسيحيين لانتخابات 1992 (وبطلها ميشال عون )التي أضعفت الاعتدال المسيحي والإسلامي معاً ومنحت جرعة قوّة للميليشيات.
الضربة الثالثة: القرار 1559 وقانون محاسبة سوريا وبطلهما عون أيضاً.
الضربة الرابعة: اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي دفع ثمن القرار 1559، وشكّل اغتياله ضربة قاسية للبنان وأحيا الفرز الطائفي والمذهبي.
الضربة الخامسة: "الحلف الرباعي" الذي أشعر المسيحيين أنهم خارج القرار الوطني، ممّا رجّح كفّة "تسونامي" عون وهمّش المسيحيين الآخرين ولزّم الطوائف للميليشيات. وهنا لا بد من الإشارة الى خطيئة "تيار المستقبل" في المشاركة في هذا الحلف، بوصفه التيار السياسي الوحيد المنفتح على كل الطوائف، وصاحب القدرة على التوافق والتحالف مع الجميع علاوة على أنه الوحيد الذي يضمّ في صفوف كتلته البرلمانية نواباً من كل الطوائف.
الضربة السادسة: "الحلف الخماسي" في مؤتمر الدوحة الذي ضمّ عون الى الحلف الرباعي وأطاح الدستور.
هذا المسار يُثبت بالوقائع أن نقطة ارتكاز الانقلاب المستدام على الدستور هو ميشال عون – الجنرال ثم الرئيس – الذي يتميّز عن الآخرين، كما يختم السيّد، بأنه "عدوّ معلن" للطائف، وإلاّ كان من واجبه بوصفه رئيساً للجمهورية "أن يحيل جبران باسيل الى النيابة العامة وأن يزجّه في السجن بتهمة الخيانة العظمى عندما وصف الدستور بـ"النتن". فرئيس الجمهورية هو الوحيد الذي يحلف اليمين على الدستور وعلى الإخلاص له واحترامه، ما يشبه الحَلَف بالله العظيم".