كتب جورج بكاسيني
عندما انتُخب ميشال عون رئيساً للجمهورية، ظنّ كثيرون أن "رمز وحدة الوطن"، حسب نصّ الدستور ، سوف يسعى ،على الأقلّ ،الى منع وصول الفتنة السنّية-الشيعية الى لبنان، متسلّحاً بـ"تسوية" من هنا و"تفاهم" من هناك يسهّلان عليه هذه "المهمّة". فكانت النتيجة أن رئيس الحكومة سعد الحريري سعى في الثلث الأول من العهد الى إصلاح ذات البين بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، فيما بذل الأخير، في الثلث الثاني، جهوداً لإطفاء نار الصراعات بين "رمز وحدة الوطن" وبين الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة.
مشهديةٌ غير مسبوقة بَرَعَ رئيس الجمهورية في تقديمها أمام اللبنانيين وأمام "الغرب والشرق معاً"، على امتداد أربعة أعوام ونصف العام، من دون أن يرفّ له جفن. بدّد بيديه رمزية "وحدة الوطن"، تماماً كما أطاح الدستور المولج بـ"السهر"عليه، كما جاء في أحكام الدستور نفسها التي استشهد بها بيان رئاسة الجمهورية.
ردّ رئيس الجمهورية على بيان رئيس المجلس قطعٌ صريح لشعرة معاوية مع آخر "وسيط" في الجمهورية يمكن أن يساهم في تلمّس طريق الحلّ. هو"رصاصة الرحمة" على الحكومة المنتظرة وعلى ما تبقّى من أمل في آن، لتكتمل لوحة الانتحار الفردي والجماعي معاً. ثمة في التاريخ أمثلة عن انتحارات فردية كانت في الوقت عينه جماعية: ألم يكن نموذج ميشال عون في قصر بعبدا بين العامين 1988 و 1990 خير مثالٍ على ذلك أيضاً؟
يعلم رئيس الجمهورية، بالتأكيد، أن نتيجة ما يقوم به هي المزيد من العزلة، وأن الرئيس برّي بما يمثلّه ومن موقعه في وسط خارطة التقاطعات هو آخر خرطوشة للجمهورية ولرئيسها. لكن الآخرين لا يعلمون أن العزلة هدفٌ مزمن عند عون منذ أن تحدّى" العالم كلّه" في 1989 - 1990 ، قبل أن يتبيّن أن جدران القصر التي يتحصّن بها كانت أوهن من بيت العنكبوت.
إنها عقدة أهل الكهف الذين بقوا يلازمون كهوفهم حتى بعد أن يخلو محيطها من الوحوش الكاسرة.
كما لا يعلم الآخرون، ربّما، أن صورة "الضحية" هي الأحبّ الى قلب فخامة الرئيس. يلجأ إليها على الدوام، أكان في المنفى أم في القصر، حتى إذا فاض لديه وهم القوّة الذي لازَمَه منذ صغره وهو يصرخ من أمام منزل والديه في حارة حريك "أنا نابليون بونابرت".. طالب بالمزيد من "الحقوق".
هذا ميشال عون. إذا ما حَشَره أحدهم في زاوية لجأ الى أخرى أصغر حجماً . أما إذا قرّر نبيه برّي أن يلحق به الى "باب الدار" لا يتردّد في تأكيد التهمة الموجّهة إليه بالسعي الى"الثلث المعطّل"، مع اعترافه بـ"عدم وجود ما يمنع ذلك".
هذا قدر الجمهورية في زمن ميشال عون: أن يكون رئيسها قائدها الى العزلة والزوال. يتقدّم بقدميه إلى الهاوية، مُمسِكاً بيديه الإثنتين ما ومن تبقّى من الجمهورية.