كشف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في إعلانه العزوف عن الترشح، المستور من المعلوم، وهو أنه "لم يكن صاحب القرار بالترشح لأن صحته وعمره يمنعانه من الممارسة". لكن من منعه ما زال كما يبدو هو صاحب القرار. تعيين وزير الداخلية رئيساً للوزراء يعني أن القرارات القادمة ستبقى بيد من حديد، أما تعيين الأخضر الإبراهيمي الخبير بالتسويات والمعروف جيداً من العواصم الدولية بسبب المهمات التي قام بها بتكليف من الأمم المتحدة يعني الاستعداد لصياغة حل يكون مقبولاً من الخارج، فماذا عن الداخل الجزائري؟
من المؤكد أن الجزائر لن تكون بعد اليوم الجزائر التي نعرفها وعرفناها. سواء استطاعت تجاوز الأزمة أو لم تستطع، فإن جزائر جديدة ستخرج من قلب هذا "الربيع الصعب". خروج الجزائريين من مختلف الأجيال والمواقع والمهن والجهويات في مظاهرات رفض ودعوة لاستمرار الاحتجاج فلأنهم يعرفون أن من أطلقوا عليهم تسمية "الذئاب" لن يستسلموا ويريدون حلولاً على قياسهم ومقاييسهم. في حين أن الشباب الجزائري ومعهم فئات كبيرة يريدون جزائر جديدة تؤمن لهم حياة كريمة تقيهم الهجرة والوقوف مستندين إلى الحيطان في الساحات والشوارع رغم أن بلادهم غنية بالنفط وبإمكانات اقتصادية ضخمة…
لا يكفي أن لا ينتخب بوتفليقة "عهدة خامسة" المهم أن يخرج الجنرالات من السلطة. عدم تحديد الفترة التي سيبقى فيها بوتفليقة رئيساً تفتح الباب على كل الاحتمالات خصوصاً وأنه لم يتم تحديد أي تاريخ مما يعني بقاء الأزمة مفتوحة حتى إشعار آخر… وزير الداخلية الذي يتولى المرحلة الانتقالية لن يخرج عن طاعة الجنرالات، المطلوب متابعة ما كان قد بدأه الرئيس بوتفليقة أي إبعاد جنرالات "حزب فرنسا" أو ما يقال عنهم في الشارع الجزائري "أبناء باريس في وطن بأديس". وكان بوتفليقة قد أقال أبرزهم ومنهم: محمد العماري والعربي بالخير ومحمد مدين المكنّى بـ"توفيق" الذي لم تظهر له صورة طوال ثلاثين سنة من عمله وترؤسه للأمن العسكري الذي كان يطلق عليه لقب S.S وخالد نزار… وقد حاول بسبب قضية "لو بوشيه" إبعاد مجموعة ثانية إلا أنّ قراراً صدر بإخراجهم من السجن رغم الاتهامات الموثقة لهم بالفساد…
وضع الجزائر دقيق جداً رغم انسحاب بوتفليقة من الانتخابات الرئاسية. المطالبة بإجراء الانتخابات بموعدها تفتح الباب أمام اشتباك جديد. رفض هذا المطلب قد يثير الشارع أكثر فأكثر. ربما الأخذ بمطالبة الرئيس الفرنسي بتحديد فترة للانتهاء يسهل الحل.
الطامعون بالخلافة لن يتراجعوا بسهولة عن طموحاتهم والتدخلات ستزداد حكماً من الداخل والخارج معاً. الخوف من "سورنة" الجزائر يتجاوز محنة "العشرية السوداء" التي سقط خلالها أكثر من مائتي ألف قتيل. ما يهدد الجزائر صراع مكشوف بين معسكري ضخمين لا يمكن حصر المنضمين إلى كل معسكر منهما.
ليست الجزائر وحدها المعنية إذا اشتعلت فيها النار. في "العشرية السوداء" جرت محاصرة النار داخل الجزائر لأن لا أحد كان يريد الإسلاميين. حالياً ومستقبلاً لا أحد يمكنه الوقوف على الحياد أو مع النظام. محيط الجزائر خائف خصوصاً وأن ليبيا ما زالت مفتوحة على كل أنواع الحروب. ولا شك أنّ تونس هي العقدة الضعيفة، خصوصاً وأنه يقال "إنّ تونس والجزائر شعب واحد في دولتين". والثابت أنّ الوضع لم يستقر في تونس نهائياً، وكانت مفاجاة كبيرة عندما كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" أنّ المارينز الأميركيين شاركوا قبل ثلاث سنوات في عملية عسكرية في تونس ضد الإرهابيين، وقد احتار المراقبون فيما إذا كان الكشف في هذا التوقيت هو لدعم تونس أم لتحذير الجزائر.
ما يعزز هذا القلق دولياً وجود تزاحم قديم إنما ارتفع منسوبه مؤخراً بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية المتحمسة للإمساك بافريقيا. ولا شك أنّ مداخلة الرئيس ماكرون حول موعد الاستحقاق القادم وضرورة إنجازه يؤكد شعور باريس بدقة الموقف وحجم الحماس الأميركي لوضع يدها في "الصحن الجزائري"… ما يقلق فرنسا أكثر من الآخرين تدفق المهاجرين الجزائريين إليها. الجزائر ثالث دولة أفريقية غنية بالنفط والغاز ومع ذلك تعاني من فقد التنمية وارتفاع منسوب البطالة…
الآن يعمل الشعب الجزائري الذي يستحق حياة كريمة وآمنة أفضل على الإمساك بمستقبل بلاده... تبدو الفرصة المناسبة موجودة في أفق هذه الأزمة فإذا نجحوا يكون ذلك بداية "ربيع" واعد لهم وللمنطقة كلها التي خسرت موعداً ولم تفقد القدرة على نيل استحقاق آخر.