كتب محمود القيسي:
"..رأيتُ أفضلَ العقولِ في جيلي وقد دمرها الجنونُ، يتضوّرون…
مَن ربطوا أنفسهم بالسلاسل.. للركوب اللانهائي… إلى برونكس المقدسة…
مَن أحرقوا أذرعهم بالسجائر احتجاجا على حاجز التبغ لإدمان الرأسمالية…
مَن ساروا طوال الليل وأحذيتهم بالدم مليئة على أرصفة مرفأ سدّها الثلجُ…
إلى غرفة ملأى بتدفئةٍ بخاريةٍ وأفيون…"
*مقطتفات من قصيدة عواء - ألن غينسبرغ
هل الرأسمالية المالية حرفت عالمنا هذا عن مسار تطور المادية التاريخية ومساره في التطور.. هل عالمنا هذا امام شر لا بد منه.. شر لا يطيقه ويعيشه مرغمًا ورغما عنه.. شر لا يحمله أو يتحمله في حروب تبدأ ولا تنتهي.. حروب رأسمالية رأس المال المالي وبداية الحروب "الذرية"، التي أنتجت هوليوود نسخته الجديدة مؤخرا، أو نسخته الاخيرة ( أوبنهايمر ) وصولاً إلى الحروب الاستباقية والفوضى الخلاقة.. أوبنهايمر، النسخة الجديدة أو الرسالة الجديدة التي أُرسلت على جناح سرعة الإلكترونيات الذكية ببريد هوليوود السريع للقاصي والداني.. للغربي الصديق العدو وللشرقي العدو.. هل العالم امام شر لا بد منه، والعيش تحت "رحمته" والموت تحت "رحمته". هل عالمنا هذا سجونًا متلاصقة رهينة تمسك رهينة وسجان يمسك سجان.. أو مجرد رهائن كهف الرأسمالية الأفلاطونية منذ ولادتنا إلى موتنا الموعود بالسلاسل وظلنا الذي يخيفنا والنار التي تُخفي النار.. هل هناك أنواع من الشر، أو مجرد شر يؤشر ويشير إلى كون الشيء السيء أو الخطأ الأخلاقي شر لا بد منه.. أو الرأسمالية تفتقد في حقيقة الأمر إلى الأخلاق التقليدية.. أو الأخلاق مجرد مصطلح اخترعناه لمجرد التبرير والاعتذار عن الشرور تلو الشرور والجرائم تلو الجرائم.. وارسل لنيتشه تحياتي..!؟
في خضم الحرب العالمية الثانية وفصولها الدموية كتب ذات مرة ديتريتش بونهوفر يقول: "إن الاسوا من فعل الشر هو أن نكون أشراراً". وقد إستخدم هذه الكلمات في الدفاع عن تخطيطه لإغتيال أدولف هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية. إن الإغتيال شر، ولكن البعض، بمن فيهم بونهوفر، يسمونه شر لا بد منه.. نعم، شر لا بد منه في اغتيال إحدى أيديولوجيات الراسمالية ( النازية ) في تلك المرحلة من تاريخ الأنسان العبثية والعدمية والصراع بين الراسماليات المتوحشة على حكم العالم.. والمفاضلة للأسف بين السيء والاسوا، والتي هي في حقيقة الأمر مجرد مفاضلة بين الرأسمالية الاسوا والرأسمالية الاسوا. ديتريش هو قس لوثري وعالم لاهوت مناهض للنازية، وعضو مؤسس في كنيسة الاعتراف. لعبت كتاباته التي تتناول دور المسيحية في العالم العلماني، والتي نادى فيها إلى ما يسمى بـ ( المسيحية غير المتدينة )، دورًا كبيرًا ومؤثرًا في المجتمع في ذلك الوقت.
أعتقد ان تغول الرأسمالية وتوحشها يشبه مجازيًا ( ميكانيكا الكم ).. الميكانيكا التي قال عرّابها نيلز بور ذات مرَّة :“إذا قرأت ميكانيكا الكم ولم تشعر بشيء من الغرابة، فإنك حتماً لم تفهمها!". في حين قال عالِم الفيزياء المميز ريتشارد فاينمان: “ميكانيكا الكم هي النظرية التي يستخدمها الجميع ولا يفهمها أحد على الإطلاق". وختم إرفين شرودينغر، الذي وضع المعادلة الأساسية لميكانيكا الكم قائلًا: “إنني لا أحب هذه النظرية، وأنا آسف لأنني قد أسهمت بها". فلماذا كل هذه الغرابة والغموض؟ لم يعد مستغربا ان يواجه الإنسان موقف يكون الخيارين الوحيدين المتاحين فيه كليهما شر مطلق. ربما توجد أمور نجبر على فعلها، مما لا نرتاح لفعله أو لا تكون الخيار الأفضل. ولكن في ضوء معرفة ما يجري في هذا العالم من شرور رأس المال المالي، وحروبه، وثقافة أوبنهايمر الحديثة.. يصبح الاختيار بين الاسوا والاسوا في العالم الراسمالي مجرد موت طبيعي من طبيعة النظام الراسمالي.. أو طبيعة نظام يدفعنا إلى الموت بدلًا من ان يدفعنا إلى الحياة.. أو يقتلنا عن سابق إصرار وترصد عندما ينتهي المبرر الراسمالي لوجودنا؟!
كتب كارل ماركس في أطروحته الحادية عشرة حول فيورباخ: "الفلاسفة لم يفعلوا شيئا سوى تفسير العالم بطرق شتى، لكن الأهم يظل هو تغييره". لكن، هل فعلا اقتصر الفلاسفة، قبل ماركس، على تفسير العالم فحسب؟ ألم يسعوا أيضًا إلى تغييره بشكل جذري بداية من أفلاطون الذي سافر إلى جزيرة سيركوسا من أجل إقناع الطاغية دنيسيوس بتطبيق الإصلاحات التي اقترحها عليه؟ من ضمن كل الفلاسفة، ربما يظل ( هيغل ) هو الوحيد الذي اقتصر على "التأمل المحض"، الوحيد الذي أهمل كل مشروع مستقبلي وعكف على وصف "الحاضر" كما هو. ومن المفارقات، أن يكون ذلك سببا في جعل فلسفته ( نقطة بداية ) لمحاولات تغيير العالم الأكثر راديكالية. هيغل الذي طور المنهج الجدلي الذي أثبت من خلاله أن سير التاريخ والأفكار يتم بوجود الأطروحة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما. كان هيغل آخر بناة "المشاريع الفلسفية الكبرى" في العصر الحديث. كان لفلسفته أثر عميق "حاضر" على معظم الفلسفات المعاصرة.
أكثر ما أتذكره خلال دراستي الجامعية في الاتحاد السوفياتي - كلية الصحافة والإعلام العالمية في أواخر سبعينات القرن المنصرم مجرد "شعار" لينيني تحفيزي و "نكتة" سياسية سوفياتية قديمة، الدراسة الجامعية التي لم تستمر لأكثر من عام دراسي واحد فقط، طُردت بعدها بتهمة التحريفية والفوضوية خارج "جنة" السوفيات العليا إلى صحراء العالم السفلي، كما كان أعضاء الأحزاب الشيوعية التقليدية آنذاك يصورون العالم خارج حدود السوفيات الأعلى.. الأحزاب التي كانت منتشرة في معظم دول العالم في تلك المرحلة "الثورية الباردة" والتي كانت دائمًا ما تحمل مظلة المطر وهي في بلادها لعل وعسى أمطرت في موسكو تلك الأيام الثورية الباردة التي استمرت لأكثر من أربعة عقود باردة دون أمطار تذكر. نعم، أكثر ما أتذكره في تلك الحقبة الباردة شعار لينين التحفيزي الأشهر الذي كان موجه خصيصًا للشباب والأجيال الصاعدة: "التعلم، التعلم، والتعلم". الشعار الذي كان مثبّتا على معظم جدران المدارس والمعاهد والجامعات في جميع انحاء الاتحاد السوفياتي في تلك الحقبة البيروقراطية الثورية والزمن البارد.. ونكتة سوفياتية سياسية قديمة تقول: "يُحكى أنه قد طُلب من ماركس، انغلز ولينين أن يختاروا ما بين أن تكون لهم زوجة أو عشيقة. ماركس، بأخلاقه المحافظة، سيختار، دون تردد، الزوجة. انغلز، ككل محب للحياة، سيختار العشيقة. وأمام اندهاش الجميع، سيختار لينين الاثنين معا". يشرح لينين مبررًا موقفه هذا قائلا: "سأقول لزوجتي بأنني ذاهب لرؤية عشيقتي، ولعشيقتي بأنني ذاهب لزيارة زوجتي: ما الذي بوسعنا فعله في مواجهة الرأسمالية العالمية؟ ما الذي بوسعنا فعله.. سأجيب بكل صدق"؟!
سأجيب بكل صدق”. هذا بالضبط ما قام به لينين بعد كارثة 1914 او ( معركة تاننبرغ ) التي تكبدت فيها القوات الروسية ما يزيد عن 120.000 قتيل وجريح ومفقود في ( بداية الحرب العالمية الأولى ): فقد قفز إلى أعماق الكتب في سويسرا من أجل الإبحار والغوص في محيطات “منطق” هيغل "المثالي" في فهم "الحاضر" و "الواقع" الجدلي.. فأمام هستيريا التحول التي تأخذنا اليوم في تيارها، نحتاج لأخذ بعض الوقت والمسافة والعودة إلى مدرسة الوعي والشروع في “التعلم، التعلم، والتعلم” على مبدأ وعي الضرورة - ضرورة الوعي. وعدم التسرع من أجل تغيير العالم بل فهمه اولا (وبالتالي تجنب إمكانية الاصطدام بالحائط كما هي عادة اليسار: ماذا بوسعنا فعله في مواجهة الرأسمالية العالمية؟). الأجدر بنا أن نعمل على ( إزالة اللثام ) عن مختلف مظاهر ( الهيمنة ) في هذه ( الايدولوجيا ) الرأسمالية "الجذمورية" متعددة الرؤوس والأبعاد الثلاثية وسياسة الفقاعات والعقوبات والهولوجرام.. في الحقيقة، لحظتنا التاريخية الحالية هي نفسها لحظة أدورنو: ”على سؤال": ماذا بوسعنا فعله؟ سأجيب بكل صدق: لا أعرف شيئا’.” كل ما أستطيعه، هو العمل على ( تحليل الأشياء كما هي في الواقع ) لأنه قد أصبح بديهيا افتقادنا للمعالم الضرورية في قراءة الواقع الحاضر من أجل تصويب بوصلة هذا العالم، الذي هو عالمنا وملكنا كشعوب في نهاية المطاف وليس ملكًا للأنظمة الرأسمالية وحفنة من الحكام المارقين أو ما يسمى المالكين.
رغم كل ما تقدم من نقد للعقل تاريخيًا - يرفض أدورنو مواجهة اللاعقل بشيء أخر غير العقل، لأن الإيمان بالفلسفة والعقل الإنساني يتواكب مع رفض الخوف من تقليص مقدراتنا على التفكير، فليس المفروض هو التحكم في الواقع، وإنما المقصود هو نقده، على أساس إن الواقع هو نتاج حالة صيرورة دائمة وهو قابل للتغيير. كتب صوت الحرية في الشعر الأميركي الحر.. الشاعر والمناضل الأميركي المتمرد "جاك هيرشمان" في أحدى قصائده: "الزقاق الضيق هناك يضع أسماعه على الباب. تأرجح هؤلاء الفتية لأجل جلاجي أليسون ولأجلي أنا، من الولايات المتحدة؛ هم واقفون ونحن نتكوَّرُ على الأرض؛ نشعر جميعًا بأننا في بيتنا في عالم بلا مأوى يحوم حول تلك النقطة حيث يبدأ كل اتصال وتناغم، صوتُ كل دوامة"…!