رحل الرئيس جاك شيراك الودود القريب من قلوب الناس، رجل الدولة وودعه عشرات القادة العالميين والعرب.
الفرنسيون حجوا بالالاف لالقاء النظرة الاخيرة عليه، الرئيس الذي تعلقوا به بطريقة لم تعرفها فرنسا منذ رحيل الجنرال ديغول عام 1970.
انه آخر الرؤساء الذين تمسكوا حتى النهاية بالقيم الفرنسية التنويرية والثقافية، بل كأنه آخر الرؤساء الكبار الذين حاولوا جاهدين مواجهة التطرف اليساري واليميني. لكنه إلتقى اليسار المعتدل خصوصاً في الانتخابات الرئاسية التي واجه فيها لوبان الاب ونال 82% من اصوات الناخبيين، وهو رقم لم يدركه أي رئيس قبله أو بعده. وعندما نجد الحالات التي ادركتها الاوضاع في فرنسا اليوم من شعبوية وعنصرية ومذهبية وتطرف واوضاع اقتصادية واجتماعية متدهورة ادت كلها إلى انقسامات عامودية في مكونات المجتمع الفرنسي، لابد ان نستذكر ذلك الرجل اليوم بأنه صان الوحدة الوطنية والعلمانية والانفتاح والاقتصاد. اي اقصد هؤلاء المتمسكين بهوية فرنسا النهضوية والتنويرية. رجل فرنسا؟ نعم! لكنه رجل لعب دوراً كبيراً في السياسة العالمية وسجل مواقف جريئة ابرزها وقوفه بوجه الولايات المتحدة في مجلس الامن عام 2003 مهدداً باستخدام الفيتو ضد غزو العراق، وكذلك إلى جالب لبنان طيلة حياته السياسية وخصوصاً منذ بداية صداقته مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبعده ابنه الرئيس سعد. والكل يتذكر كيف جاء إلى بيروت ليعزي برحيل اخيه وصديقه. لكن وفاء شيراك لم يقتصر على علاقة شفافة بلبنان بل كان مهندس المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري.
بل كان الموئل الذي يقصده العرب كحليف لهم وقضاياهم وفي مقدمتهم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وفي هذا الاطار ومن خلال مواقفه المؤيدة للعرب مشى في شوارع القدس الشرقية اثناء زيارته فلسطين ورفض بقوة الطوق الامني الذي ضربته حوله الشرطة الاسرائيلية لمنعه من الاحتكاك بالمواطنين الفلسطنيين الذين تجمهروا لاستقباله والترحيب به. هذا الطوق الامني الذي حاصره به الاسرائليون كان دليلاً دامغاً على انزعاجهم من سياسته المناهضة لممارستهم ومستوطناتهم والمؤيدة لحل الدولتين. لكن شيراك عكس العديد من الرؤساء الفرنسيين انفتح بشغف على القارة الافريقية، وتشهد على ذلك الصور التلفزيونية على الحرارة التي استقبلوه بها اثناء زيارته لبعض بلدانها. بل هو شغف اكثر من اي مسؤول فرنسي بحضارة الافارقة فأنشأ متحفاً في باريس باسمه يضم اعمالاً فنية ومنحوتات ورسوما وآثاراً تجسد الثقافة الافريقية الابداعية. وقد جذب هذا المتحب ملايين الزوار المحليين والعالميين.
سماه فيون "اسد السياسة" وسماه العرب حليفهم وسماه آل الحريري صديقهم. وحسناً فعل الرئيس سعد الحريري بمشاركته المؤثرة والوفية في مراسم تشييعه الرسمية في باريس عزى به ليس فقط كرئيس كبير لدولة كبيرة بل كواحد من افراد العائلة ومن احباب اللبنانيين.
رحل جاك شيراك وفرنسا ليست في افضل احوالها فقد اقعده المرض مؤخراً عن مواكبة مجريات بلده وحالاته وازماته. انه الفرنسي الذي انحاز إلى القضايا العادلة وانفتح على الشعوب المهمشة. الرئيس الذي عرفت فرنسا ابهى ايامها في عهده منذ الجنرال ديغول. ترك فراغاً؟ بل اكثر بل ترك ارثاً ديمقراطياً تنويرياً خانه العديد من التنويريين اسوة بالانعزاليين والشعوبيين