كتب بول شاوول

المطابقات الصعبة

تم النشر في 11 كانون الثاني 2020 | 00:00

عندما شاهدت  على شاشات التلفزيون حطام السيارتين اللتين فجرتا في بغداد وعلى مقربة من المطار وقتل قائد فيلق القدس سليماني وأبو مهدي المهندس نائب رئيس الحرس الثوري وأربعة أخرون، عندما رأيت شظايا السيارتين وتحولهما كومة من الحديد المحترق تذكرت حطام سيارة الرئيس رفيق الحريري بعد تمزيقها بطن من المتفجرات.  ما اشبه المشهدين.  وما أكبر دلالتهما.  بل تخيلت وكأن السيارتين واحدة يركبهما سليماني تجمع القاتل والقتيل.  واستذكرت ما يستذكره المؤمنون عادة "بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين" او "من قتل بالسيف يقتل".

        إنها تداعيات من يتذكر بألم شهيداً كبيراً ثم يتذكر وإن بغير شماتة من يصنع الشهداء، ليس في لبنان فقط بل في إيران والعراق وسوريا واليمن.  صانع الموت يقتله القتل.  إنها لعبة التاريخ والجغرافيا والعدالة والمخيلات الكبرى.

        وحين راحت وسائل الاعلام تكشف إن المسؤلين الايرانيين بعد تفجر الطائرة الاوكرانية بعد اقلاعها بدقيقتين ينظفون اثارها في موقع سقوطها من الادلة او الشواهد التي قد تقود التحقيق العتيد إلى اسباب التفجير والمفجرين.  تذكرت كيف عمد بعض المسؤولين اللبنانيين ايام الوصاية السورية وفي عهد الرئيس المفدى إميل لحود إلى سحب حطام سيارة الحريري إلى احدى الثكنات ومحاولة محو الاثار وتنظيف المكان لتضليل التحقيق.

        اكثر:  عندما راح بعض المسؤولين الايرانيين يتناقضون في تحديد اسباب سقوط الطائرة فقالوا في البداية ان الطائرة انفجرت وانقطع الاتصال مع قيادتها مباشرة.  ثم قيل ان الطيار كان يريد ان يعود بالطائرة إلى أرض المطار وفشل، وأخيراً قيل ان الطائرة اصيبت بعطل قبل اقلاعها.  وهنا تذكرت بعد استشهاد الحريري كيف انهالت الاكاذيب والتلفيقات من جهات حزب الله والنظام السوري وحلفائهما بطريقة تخييلية متناقضة. 

        منهم ما صوب على ابو عدس، وجاء بتسجيل وعلقه في احدى الاشجار ثم سلم إلى وسائل الاعلام.  ثم اتهموا الحجاج الاستراليين...  ثم قالوا ان التفجير تم من تحت الارض، ثم من فوقها ثم اتهام اسرائيل بالقتل ثم اتهام بارجة اسرائيلية بأنها قصفت من البحر سيارة الحريري واخيراً وليس اخراً اتهام سعد الحريري نفسه بقتل والده...  كل هذه الاقاويل صدرت عن جهة سياسية واحدة وهدفها واحد:  تضليل التحقيق...

لا اعرف لماذا شطت بي الذاكرة إلى اقامة هذه المقارنات.  لكنه في الواقع ليس شططاً ولا نبش قبور بل هو من أدلة واضحة ومبينة ودامغة على ظاهرة سياسية وطرق تعاملها مع الجرائم التي ترتكبها او حتى الاحداث العنيفة التي تصنعها... ومنها ما هو طازج اليوم:  اشتعلت شاشات التلفزيون بخبر مصدره ايران يفيد بأن القصف الايراني على قاعدة عين اسد الاميركية في بغداد ادى إلى قتل ثمانين جندياً اميركياً.  ثمانون ولم يقم ترامب بأي رد فعل بل على العكس اعلن انتصاره، لان الرد الايراني برأيه كان اضعف من الضعيف.  بل سرت اخبار مؤكدة ان ايران اطلعت الولايات المتحدة على مكان عمليتها الانتقامية بساعتين قبل تنفيذها لكي تأخذ كل الاحتياطات وتجنب وقوع اي قتيل او جريح.  بل يقال ان الصواريخ الايرانية التي اطلقت كانت فارغة اي غير محشوة بمواد متفجرة كأنها مفرقعات مجرد مفرقعات. 

        اكثر ايضاً: بعد القصف الايراني صرح وزير خارجية الملالي ظريف رافعاً يديه:  نحن نكتفي بهذا الرد... ولا نريد الحرب مع اميركا.  في المقابل اكتظت الشاشات والصحف ووسائل التواصل بتهديدات عنيفة وجذرية تحت عنوان الانتقام الاستراتيجي والتحضر لاستقبال الجنود الاميركيين بالتوابيت في بلدهم.  من تفوهات اذرع ايران وقادتها.

        كل ذلك يدل على ازدواجيات الخطاب الايراني وتلفيقاته:  في وقت واحد يقول لا نريد حرباً وثم يتحاشون ان يهرقوا قطرة دمٍ اميركية ويقتلون الف وخمسماية ايراني لقمع ثورتهم، وخمسائة ثائر عراقي في ساحات الانتفاضة...  ويقتلون مئات الوف السوريين ويغتالون الصحفيين...  فالدم الاميركي خط احمر... خوفاً من رد صاعق قد يصل إلى عمق إيران.  اما الدم العربي او الايراني فبلا خطوط ولا ضوابط اي مستباح. 

هذا هو جوهر ايديولوجيا العنف ووسائلها الاعلامية واستراتيجياتها المدمرة التوسعية.

        يمكن اختصار كل ذلك بعبارة انها دولة القتل، التي قامت ثورتها على القتل واستمرت به وها هي في بداية سقوطها به ايضاً.